
الشرق
انتشرت في السنوات الأخيرة شركات "اشترِ الآن وادفع لاحقاً" (Buy Now and Pay Later) كأحد أسرع نماذج التمويل الاستهلاكي نمواً في العالم، حيث تجذب المستهلكين بوعود الشراء الفوري البراقة دون الحاجة إلى الدفع الكامل مقدماً. وبينما يرى البعض أنها تفتح آفاقاً أوسع للتسوق وتوفر سيولة مرنة، يحذّر خبراء من المخاطر الخفية وراء هذا النموذج، بدءاً من تراكم الديون والفوائد المركبة وحتى تأثيرها على الاستقرار المالي للأفراد. فما الذي تعنيه هذه الشركات حقاً؟ وما التحديات التي يمكن أن يخفيها هذا النموذج "السهل" للدفع؟
ما هي شركات "اشتر الآن وادفع لاحقاً"؟
"اشترِ الآن وادفع لاحقاً" هي شركات تتيح للمستهلك شراء السلع أو الخدمات فوراً مع تأجيل الدفع على أقساط قصيرة أو طويلة الأجل. ويُنظر إليها كبديل مرن لبطاقات الائتمان التقليدية، خصوصاً لفئات الشباب والمستهلكين الذين لا يملكون سجلاً ائتمانياً قوياً.
اقرأ أيضاً: "فوري" المصرية: نمو متسارع بخدمة "اشترِ الآن وادفع لاحقاً"
تدفع هذه الشركات المبلغ للتاجر مباشرةً عند إتمام عملية الشراء، ثم تحصل لاحقاً على مستحقاتها من المستهلك عبر دفعات مجدولة، غالباً مقابل فوائد مركبة كبيرة نسبياً، باستثناء بعض الحالات التي يحصل فيها المستهلك على عروض لشراء منتج معين أو التعامل مع تاجر ما.
من أبرز لاعبي القطاع في المنطقة؟
تشهد أسواق الخليج ومصر دخول لاعبين متنوعين إلى قطاع «اشترِ الآن وادفع لاحقاً» (BNPL)، يمكن تمييزهم إلى فئتين رئيسيتين. الفئة الأولى تضم الشركات الراسخة في السوق المالي التي توسعت لتقديم خدمات BNPL مستفيدة من خبرتها وبنيتها القائمة في التمويل والمدفوعات، مثل فاليو وسهولة وفوري وأمان في مصر، ومدفوع وجيل باي في السعودية، إضافة إلى كاشيو في الإمارات وتالي بالتعاون مع بيت التمويل الكويتي، هذه الشركات وظّفت مكانتها القائمة لتعزيز الثقة وتسريع انتشار الخدمة.
أما الفئة الثانية فتضم شركات وُلدت خصيصاً كنماذج BNPL ونجحت في ترسيخ نفسها كلاعبين جدد في المشهد المالي، مثل تمارا وكادي باي في السعودية، وتابي وبوست باي في الإمارات، و"باي ليتر" في قطر، إلى جانب شركات مصرية ناشئة مثل بلنك وحالا ورايز. هذه الشركات صعدت بسرعة عبر حلول رقمية مبتكرة وشراكات مباشرة مع المتاجر الإلكترونية، ما ساهم في تنويع الخيارات أمام المستهلكين ودفع المنافسة في المنطقة إلى مستويات جديدة.
ما نموذج عمل هذه الشركات وكيف تربح؟
الربحية في نموذج «اشترِ الآن وادفع لاحقاً» لا تأتي مباشرة من المستهلك، بل من التجار عبر الرسوم، بحسب مكتب حماية المستهلك الأميركي (CFPB). غير أن المستهلك قد يصبح مصدراً للدخل في حال التأخر في السداد، كما هو الحال لدى "فاليو" في مصر التي تفرض رسوماً على التأخر في السداد، كما تسمح القواعد التنظيمية في السعودية بفرض رسوم تأخير ضمن إطار تحصيل الديون، وفق موقع المركزي السعودي.
ويعتمد نموذج الربحية على ثلاثية واضحة. الركيزة الأولى هي رسوم التجار، التي تمثل العمود الفقري للإيرادات وغالباً ما تتراوح بين 3% و6% من قيمة المعاملة، وهي نسبة تفوق عمولات بطاقات الائتمان لكنها مبررة بزيادة المبيعات. الركيزة الثانية تتمثل في المنتجات المالية الإضافية، حيث تحقق شركات مثل "أفيرم" إيرادات إضافية من الفوائد على خطط التقسيط الأطول، إلى جانب بيع محافظ القروض لمستثمرين في أسواق رأس المال. أما الركيزة الثالثة فهي خدمات التسويق والإعلانات الرقمية، إذ حولت شركات مثل "كلارنا" تطبيقاتها إلى منصات تسويق للتجار، ما يتيح لهم الإعلان المباشر والوصول إلى بيانات المستهلكين، وهو ما بات يمثل مصدراً متنامياً للدخل.
في المقابل، يجد التجار أنفسهم مستفيدين بدورهم، إذ تُسهم هذه الخدمات في زيادة المبيعات ورفع متوسط قيمة المشتريات، ما يجعلهم على استعداد لدفع عمولات أعلى نسبياً من تلك المفروضة عبر بطاقات الائتمان التقليدية.
اقرأ أيضاً: كيف تتغير تطبيقات "اشتر الآن وادفع لاحقاً" مع نضجها؟
تعتمد شركات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على نفس النموذج الربحي لشركات "اشترِ الآن وادفع لاحقاً" العالمية تقريباً، لكن مع اختلافات تفرضها طبيعة السوق والتنظيم. فهي تركّز بشكل أساسي على العمولات من التجار، مع توسع تدريجي في تقديم خدمات إضافية مثل ما قامت به "فاليو" في مصر عبر دخولها قطاعات التعليم والسفر. كما تسعى شركات مثل "تمارا" و"تابي" في الخليج إلى تحويل تطبيقاتها إلى منصات تسويق للتجار من خلال شراكات مع منصات التجارة الإلكترونية الكبرى. ويبرز الفارق الأهم في الإطار التنظيمي، إذ تفرض السلطات النقدية، مثل البنك المركزي السعودي (SAMA)، قواعد تحد من الاعتماد على رسوم التأخير وتدفع للتركيز أكثر على العمولات وخدمات القيمة المضافة.
مستقبل قطاع اشترِ الآن وادفع لاحقاً بين النمو والتشديد التنظيمي
أظهرت بيانات "ستاتيستا" (Statista) أن إنفاق المستهلكين عبر هذه الخدمات قد يرتفع بحوالي 450 مليار دولار بين 2021 و2026، وهو ما يعكس تزايد الاعتماد على هذا النموذج المالي الرقمي.
اقرأ أيضاً: "اشتر الآن وادفع لاحقاً".. خدمة جديدة لـ"أبل" بالولايات المتحدة
لكن على الرغم من هذه الطفرة، يتجه عدد من الشركات لإعادة صياغة نموذج أعمالها تحت ضغط التكاليف واللوائح. فقد بدأت بعض المنصات بالتحول نحو منتجات أكثر تقليدية مثل القروض الشهرية الثابتة (EMI) وخدمات الائتمان الاستهلاكي، في محاولة للتكيف مع المتطلبات التنظيمية الجديدة التي تفرض على مقدمي الخدمة التحقق من الجدارة الائتمانية وتوضيح شروط السداد بشكل أكبر. هذا التحول الاستراتيجي يعكس نضوج السوق، ويفتح الباب أمام دخول لاعبين تقليديين مثل البنوك التي تملك خبرة طويلة في إدارة المخاطر والامتثال التنظيمي، بحسب "إيكونومك تايمز".
ما المخاطر التي قد تواجه المستهلك من الاستعانة بخدمات "اشترِ الآن وادفع لاحقاً"؟
أشار تقرير لمجلة "بيزنس منثلي"، النشرة الرسمية لغرفة التجارة الأميركية في مصر، إلى أن ضعف الأطر التنظيمية في أسواق المنطقة يفتح الباب أمام ارتباك لكل من مزوّدي خدمة «اشتر الآن وادفع لاحقاً» (BNPL) والتجار، ويترك المستهلكين من دون شبكة حماية واضحة كما هو الحال في منتجات الائتمان التقليدية. كما أن غياب إدراج هذه القروض في تقارير مكاتب الائتمان يمنح المستخدمين إحساساً زائفاً بالاستقرار المالي، إذ يمكنهم الاشتراك في عدة برامج متوازية من دون أن يظهر ذلك في تقييمهم الائتماني، لتظهر المخاطر الحقيقية فقط عند تراكم الديون وصعوبة السداد. وإلى جانب ذلك، فإن عمل هذه الخدمات خارج الأطر القانونية الصارمة يجعلها أقل حماية من البطاقات المصرفية، مع رسوم غير شفافة أحياناً وممارسات تحصيل قد تكون أكثر صرامة، بينما يشجع عنصر "سهولة الدفع" على مشتريات اندفاعية وزيادة الإنفاق في ظل بيئة تضخمية ضاغطة.
هذه المخاطر حذّر منها خبراء في القطاع. فقد قال أنتون مسعد، الرئيس التنفيذي لشركة سيدر روز (Cedar Rose) المتخصصة في حلول مخاطر الائتمان بالمنطقة، في تصريح لمجلة "بيزنس منثلي"، إن غياب تنظيم شامل لخدمات BNPL يخلق ارتباكاً كبيراً لكل من المزوّدين والتجار، وهو ما قد يهدد استدامة النمو. كما أكد حسام عرب، الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة تابي (Tabby) السعودية، في مقابلة مع منصة فاست كومباني ميدل إيست (Fast Company Middle East)، أن مرونة الدفع تعزز القوة الشرائية للمستهلكين وترفع متوسط قيمة الطلبات بنسبة تصل إلى 33%، لكنه أشار أيضاً إلى ضرورة تطوير قواعد تنظيمية أكثر صرامة لضمان التوازن بين تحفيز الاستهلاك وحماية المستهلك.
قد يهمك: قروض "اشتر الآن وادفع لاحقاً" تستأثر قلوب معظم المتسوقين حول العالم
وسلط تقرير لموقع "كونسيومر ريبورتس" الأميركي الضوء على عدة مخاطر تهدد المستهلكين من خدمات "اشترِ الآن وادفع لاحقاً"، أبرزها الغموض في الإفصاح عن الرسوم، حيث تفرض بعض التطبيقات رسوماً على التأخير قد تصل إلى 25% من قيمة القرض، ما قد يؤدي إلى تراكم الديون. كما أن حماية المستهلك من الاحتيال وسرقة الهوية غير كافية، إذ تلتزم فقط ثلاث شركات، هي "باي بال" (PayPal) و"كلارنا" و"آفتر باي"، بمراقبة فورية للنشاطات المشبوهة وإبلاغ المستخدمين عند الاشتباه بوقوع احتيال. وتجمع هذه التطبيقات بيانات تفوق الحاجة، مثل سجل التصفح والموقع الجغرافي وجهات الاتصال، وتُشاركها غالباً مع أطراف خارجية لأغراض دعائية، مع غياب واضح للشفافية أو أدوات تحكم فعالة للمستخدمين. الأسوأ أن معظم الشركات لا تضمن حذف البيانات حتى بعد إغلاق الحساب، ما يُعرض خصوصية المستهلكين للخطر.
كيف يطمئن المستهلك إلى عدم التلاعب بحقوقه؟
يمكن القول إن حماية حقوق المستهلك في خدمات "اشترِ الآن وادفع لاحقاً" (BNPL) لا تزال متفاوتة عالمياً وعربياً. ففي دول مثل أستراليا والمملكة المتحدة، طُبقت تنظيمات صارمة تلزم الشركات بمراقبة الائتمان، والكشف الكامل عن الرسوم، وتوفير آليات لاسترجاع الأموال، وذلك بعد تقارير عن إساءة الاستخدام وتراكم ديون المستهلكين. على سبيل المثال، بحسب وكالة "رويترز"، أقرت أستراليا في يونيو 2025 لوائح تُخضع شركات BNPL لنفس قوانين الائتمان التقليدي، بعد فضيحة تم فيها إقناع مستخدمين بإغلاق حساباتهم والانتقال إلى بطاقات ائتمان بدلاً من التقسيط الميسر، مما أثار جدلاً واسعاً حول الممارسات التجارية غير العادلة.
أما عربياً، فقد برزت السعودية والإمارات كأمثلة على تنظيم هذا القطاع سريع النمو. فمثلاً في السعودية، تلزم اللوائح التنظيمية الصادرة عن البنك المركزي السعودي (ساما) شركات "اشترِ الآن وادفع لاحقاً" (BNPL) بتوفير حماية شاملة للمستهلكين، من خلال إنشاء وحدة مستقلة لمعالجة الشكاوى واعتماد إجراءات واضحة لتوثيقها والرد عليها ضمن مدد زمنية محددة.
كما يلزم "ساما" الشركات بالحفاظ على سرية بيانات ومعاملات العملاء وعدم مشاركتها مع أي طرف خارجي حتى بعد انتهاء العلاقة، إلا وفقاً للأنظمة. وتفرض اللوائح أيضاً حفظ سجلات العملاء لمدة لا تقل عن عشر سنوات، وضمان توفر أنظمة تقنية فعالة تضمن سلامة البيانات وسريتها. وتُضاف إلى ذلك التزامات تتعلق بالأمن السيبراني ومكافحة غسل الأموال، بما يضمن بيئة مالية آمنة تحمي حقوق المستهلك وتعزز الشفافية والثقة، بحسب الموقع الإلكتروني للبنك المركزي.
في أواخر، 2023، أدرج المركزي الإماراتي خدمات "اشترِ الآن وادفع لاحقاً" ضمن إطار ضوابط التمويل قصيرة الأجل، بحيث يُسمح بتقديمها فقط من خلال وكلاء مرخصين لبنوك أو شركات تمويل، أو عبر شركات تمويل حاصلة على ترخيص محدود من البنك. كما شددت القوانين على ضرورة ترخيص أي جهة حالية تمارس هذه الأنشطة دون إذن، وإلا فإنها قد تتعرض لإجراءات تنظيمية صارمة.
أما في مصر، فتخضع خدمات "اشترِ الآن وادفع لاحقاً" لإشراف الهيئة العامة للرقابة المالية (FRA) بموجب قانون التمويل الاستهلاكي رقم 18 لسنة 2020، الذي يُلزم الشركات بالإفصاح الكامل عن الشروط وتوفير حماية واضحة للمستهلك. كما منح قانون التكنولوجيا المالية رقم 5 لسنة 2022 الهيئة صلاحيات إضافية لتنظيم الشركات الرقمية، مع التركيز على حماية بيانات العملاء ومنع الممارسات المضللة، وتوفير آليات فعالة لتلقي الشكاوى، في إطار تعزيز الثقة في الخدمات المالية الرقمية.
توصيات لحماية المستهلك عند استخدام "اشترِ الآن وادفع لاحقاً"
بحسب تقرير وكالة "أسوشيتد برس" (AP)، يُنصح المستهلكون بالتعامل بحذر مع خدمات "اشترِ الآن وادفع لاحقاً" (BNPL) لتجنب الوقوع في أزمات مالية غير متوقعة. إذ تؤكد الوكالة أن هذه الخدمات يجب أن تُستخدم فقط عند الضرورة وللمشتريات المخطط لها، مع وضع خطة واضحة للسداد قبل إتمام أي عملية شراء. كما تنصح بعدم الاعتماد عليها كبديل دائم للدخل، خاصة وأن سهولة الحصول على التمويل قد تغري المستهلك بمراكمة التزامات مالية تفوق قدرته على السداد.
قد يهمك أيضاً: الحذر من طفرة تطبيقات الدفع ضروري لجيل الألفية
وتوصي "أسوشيتد برس" أيضاً بأهمية تتبع مواعيد الدفعات بدقة عبر استخدام التقويم أو التطبيقات المخصصة لتجنّب الرسوم المتأخرة، إضافة إلى تجنّب الحصول على أكثر من قرض BNPL في الوقت نفسه، لما لذلك من مخاطر على الاستقرار المالي للمستهلك. الالتزام بهذه الإرشادات يُعد خطوة أساسية لتعزيز وعي المستهلك وضمان استفادته من مزايا هذه الخدمات دون الوقوع في فخ الديون المتراكمة.





