وزير خزانة ترمب .. دوره وتحدياته وإرثه العتيد

ترمب، المعروف باندفاعته، يعيره أذناً صاغية، وهو أمر يأمل استمراره المستثمرون القلقون حول العالم

time reading iconدقائق القراءة - 43
وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسينت خلال اجتماع بين الرئيس دونالد ترمب ورئيس الفلبين فرديناند ماركوس الابن، في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض في واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة، في 22 يوليو 2025 - رويترز
وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسينت خلال اجتماع بين الرئيس دونالد ترمب ورئيس الفلبين فرديناند ماركوس الابن، في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض في واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة، في 22 يوليو 2025 - رويترز
المصدر:

بلومبرغ

استقل وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت طائرة الرئيس دونالد ترمب ليرافقه عائداً إلى واشنطن من مارالاغو في فلوريدا في 6 أبريل، وهو يوم الأحد الذي تلا إعلان الرئيس عن رسومه الجمركية فيما أسماه يوم التحرير. وقد أراد بيسنت أن يتناول ضبط  الأضرار.

بحلول ذلك الوقت، كانت صورة ترمب في حديقة الورود رافعاً لوحاً يعرض رسوماً جمركيةً تصل إلى 49%  قد أثارت قلق المستثمرين حول العالم، ودفعت إلى أكبر تخارج من الأسهم على مدى يومين منذ زمن الجائحة.

شتاء اقتصادي نووي

كتب المستثمر الملياردير بيل أكمان في منشور عبر (X) محذراً من قدوم "شتاء اقتصادي نووي"، وقال: "نحن بصدد تدمير الثقة في بلدنا كشريك تجاري، وكمكان لممارسة الأعمال التجارية، وكسوق لاستثمار رأس المال". وانضم رئيس”جيه بي مورغان تشيس آند كو“ التنفيذي جيمي ديمون، قائلاً إنه يُرجح أن تعيد الرسوم الجمركية إذكاء نار التضخم وربما تجلب ركوداً.

وتوقع لاري سامرز، وزير الخزانة السابق، أن تعاني الولايات المتحدة من فقدان ملايين الوظائف. بيسنت، الذي كان فيما مضى أحد أفضل مديري صناديق التحوط في العالم، أبلغ عملاءه قبل أشهر من ذلك أنه في عهد ترمب "سيكون مسدس الرسوم محملاً دائماً وموضوعاً على الطاولة، ولكن نادراً ما ستنطلق رصاصته". في نظر وول ستريت، كان يُفترض أن يكون بيسنت قفل الأمان. فأين كان إذاً؟.

وزير الخزانة الأميركي يتصدر مشهد مفاوضات التجارة في وول ستريت

بعد مسيرة مهنية استمرت 40 عاماً في مجال التمويل تضمنت العمل مع أساطير الاستثمار مثل جورج سوروس وستانلي دراكنميلر، لدى بيسنت أفكاره الخاصة حول كيفية تهدئة المتداولين المذعورين. قال في مقابلة في أواخر يوليو في مكتبه بوزارة الخزانة: "أعتقد أنه كان بإمكاني جعل الأسواق ترتفع في يوم التحرير". لو قلنا، "ها هي الأرقام. هذه هي مستويات الرسوم القصوى إذا لم تأتوا برد فعل، لكننا منفتحون على التفاوض".

قال بيسنت إنه اقترح على متن طائرة الرئاسة في ذلك الأحد من أبريل إلغاءً فورياً للرسوم لنزع فتيل الأزمة، لكن الرئيس لم يتراجع. أراد تخويف شركاء أميركا التجاريين ودفعهم إلى طاولة المفاوضات. قال لبيسنت: "دعونا نترك الأمر يستمر لبضعة أيام أخرى. لا تقل إننا على استعداد للتفاوض".

الرسوم المتبادلة والمضادة.. ما الفرق بينهما وما أهميتهما؟

لم يتراجع ترمب إلا قبل سويعات من الموعد المفترض لفرض الرسوم. يوم الأربعاء 9 أبريل أعلن عن توقف لمدة 90 يوماً لما يُسمى بالرسوم المتبادلة ومعدل مؤقت بنسبة 10% لكل دولة باستثناء الصين. وحين تحدث إلى الصحفيين خارج البيت الأبيض، أشاد بيسنت بـ"شجاعة الرئيس الكبيرة" لأنه لم يحد عن المسار.

دعونا نترك الأمر يستمر لبضعة أيام أخرى. لا تقل إننا على استعداد للتفاوض

الرئيس دونالد ترمب مخاطباً وزير الخزانة بيسنت

ارتفعت الأسهم بقوة. القصة التي يريد الجميع في وول ستريت تصديقها هي أن بيسنت، وهو واحد منهم، أقنع ترمب المتردد بالاستسلام بشأن الرسوم الجمركية بعدما اشتكى له أصدقاء لديهم مليارات الدولارات المعرضة للخطر. هذا هو التفكير وراء عبارة صاغها كاتب عمود في ”فاينانشال تايمز“ وباتت الآن رزيةً قال فيها: "ترمب يتراجع دائماً“.

إقدام ترمب على المخاطرة

يصر بيسنت على أن هذا خطأ، ويقول: "لم تجبره السوق… لديه قدرة أكبر على تحمل المخاطر مني". يسلط ما حدث الضوء على كيفية اتخاذ القرارات في إدارة ترمب الثانية. يرى كثيرون في وول ستريت وأماكن أخرى أن بيسنت له تأثير معتدل، شخص يمكنه سحب ترمب من حافة الهاوية، على الأقل في المسائل الاقتصادية.

لكن خلال مقابلة مطولة، قلل مراراً من دوره، ووصف نفسه بأنه مستشار متواضع مهمته مساعدة الرئيس على تحويل إندفاعاته الشعبوية إلى سياسات ثم ترجمتها للأسواق. قال: “أقوم بعملي، وأعطيه الخيارات والنتائج، وأعرضها ثم أدير السردية انطلاقاً من ذلك".

قد يبدو هذا تواضعاً بقدر غير ملائم لشخص محترم مثل بيسنت، لكنها استراتيجية مجربة. قال ستيفن منوشين، الذي كان وزير خزانة ترمب بين 2017  و2021: "سواء كنت تتفاوض في مجموعة العشرين، أو كنت تتفاوض على صفقة تجارية أو كنت تتفاوض مع الكونغرس، فمن الأفضل أن تفهم أنك تتحدث نيابة عن الرئيس… إذا كنت لا تفعل ما يريده الرئيس ولا يمكنك تمثيله جيداً، فلن يكون لدورك عزماً".

مجلس الشيوخ يوافق على تعيين سكوت بيسنت وزيراً للخزانة الأميركية

خلال أقل من سبعة أشهر منذ تعيينه، أظهر بيسنت، الذي بلغ من العمر 62 عاماً ويتحدر من ولاية ساوث كارولينا، أنه يستطيع تهدئة الأسواق المالية لأنه القادر على تخفيف التصعيد في الإدارة التي تتسم بسرعة تأجيجه.

سواءً كان هذا صحيحاً أم لا، يُنسب إليه الفضل ليس فقط في قرار ترمب بالتراجع عن رسوم يوم التحرير ولكن أيضاً في إقناعه بعدم متابعة (حتى الآن) تهديده المتكرر بإقالة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول.

في الوقت نفسه، نجا إلى حد كبير من التدقيق لفشله في الإيفاء بتعهده بأن الإدارة ستكون "مركزة بشكل كبير" على خفض عجز الميزانية وخفض عوائد السندات. حتى في الأمور التي أثارت قلق نظرائه السابقين في مجال الاستثمار، دعم بيسنت الرئيس بقوة.

كان أحد هذه الأحداث في 1 أغسطس حين أقال ترمب أحد كبار المسؤولين عن البيانات الاقتصادية في البلاد فجأة بعدما أغضبه تقرير يُظهر تباطؤاً حاداً في التوظيف، واتهمها بالتلاعب بتلك الأرقام.

أثار ذلك على الفور تساؤلات حول نزاهة الإحصاءات المستقبلية ومعها الأساس التجريبي الذي يدعم ليس فقط قرارات أسعار الفائدة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي ولكن أيضاً سوق سندات الخزانة الأميركية بالكامل وحجمها 29 تريليون دولار.

كيف يبحر الاقتصاد العالمي إذا اختلت بوصلة الإحصاءات الأميركية؟

قال بيسنت لاحقاً في حوار مع (MSNBC)، إن قرار ترمب كان له مبرر هو تكرار تواتر مراجعات كبيرة لأرقام التوظيف وأن التغيير ”جاء متأخراً عن زمنه". في 11 أغسطس، عيّن ترمب إي جيه أنتوني، كبير الاقتصاديين في مؤسسة هيريتدج المحافظة، لقيادة مكتب إحصاءات العمل.

مكتب بيسنت، الذي يقع في زاوية مشرقة من المبنى تطل على البيت الأبيض، استعاد رونقاً عتيقاً منذ أن أعاد إليه أثاثه التقليدي من المخزن. يوجد على مكتبه كوب به ثلج وزجاجة صغيرة من شراب ”دكتور بيبر“، التي يقول إنها "خطيئته الكبرى". وقد عُلقت صورة لألكسندر هاملتون، أول وزير خزانة في البلاد، فوق المستوقد وبجانبها إطار يحيط بنسخة من سجل تصويت النداء بالأسم الذي أكد فيه مجلس الشيوخ تعيين بيسنت في 27 يناير بأغلبية 68 صوتاً مقابل 29. وتوسطت الغرفة طاولة صغيرة يستخدمها ليستضيف مشرعين من كلا الحزبين لمشاركته الغداء بأناقة.

وسط المتعلقات الشخصية ومنها صور والديه وشريكه جون وأطفالهما كول، 15 عاماً وكارولين 11 عاماً، توجد قبعة بيسبول مزينة بعبارة "كان ترمب محقاً في كل شيء". بيسنت طويل القامة وكان مرتدياً بدلة وربطة عنق وشعره فضي قصير، وهي الصورة التي تعبر عن رجل جنوبي نبيل؛ وهو ما قد يفسر سبب أن جهاز الخدمة السرية يسمه رمزاً (Swamp Fox)، نسبةً إلى مزارع تحول إلى جنرال في ولاية ساوث كارولينا في القرن الثامن عشر.

في هذا اليوم، لم يُظهر التحفظ أو التكتم الذي يميز أحياناً إطلالاته التلفزيونية، فقد وصف على مدار ساعتين علاقته بترمب، وشرح فلسفته الاقتصادية، وشارك بعضاً من أولوياته الأكثر إلحاحاً كوزير، بينما كان يدير جدول أعمال محموم: اجتماعات مع طاقمه، ومع وفد تجاري من سنغافورة، ومقابلة أمام الكاميرا.

رحلات مكوكية

لقد عاد لتوه من رحلة نهاية الأسبوع إلى اليابان لحضور معرض إكسبو العالمي، ويوشك على التوجه إلى ستوكهولم لجولة ثالثة من المحادثات التجارية مع الصين. في المحادثة، كان بيسنت سعيداً بوضوح لأنه برغم التحذيرات المؤسسية المروعة بأن ازدراء ترمب للمعايير الدبلوماسية واللامبالاة تجاه سيادة القانون من شأنه أن يدمر الاقتصاد، فقد تقدم مؤشر ”ستاندرد آند بورز 500“ بنسبة 10% منذ انتخابات 5 نوفمبر.

لكن الأسهم تخلت عن بعض هذه المكاسب في الأسابيع الأخيرة، مع تراكم الأدلة على التباطؤ. أظهر تقرير التوظيف عن يوليو أضعف ثلاثة أشهر من نمو الوظائف منذ الوباء.

في غضون ذلك، يشير تراجع إنفاق المستهلكين منذ بداية العام إلى أن أثر الرسوم الجمركية بدأ يظهر. يوصف وزير الخزانة أحياناً بأنه المسؤول المالي الرئيسي للبلاد، لكن سواءً كان ذلك بسبب الطموح أو الظروف أو مزيج من كلا الأمرين، فإن مسؤوليات بيسنت تتجاوز بكثير التوصيف الوظيفي المعتاد.

بالإضافة إلى التعامل مع الدور النمطي الذي يشمل إصدار أدوات الدين وتحصيل الضرائب وإقرار مدفوعات الضمان الاجتماعي والتنظيم المالي وفحص الاستثمار الأجنبي والعقوبات الاقتصادية- كان اختيار بيسنت ليتولى بعض أصعب وأشهر المهام في ”إدارة ترمب 2.0“.

لقد تولى زمام المبادرة في محادثات التجارة مع الصين واليابان ودول آسيوية أخرى، وأسفر ذلك عن أربع اتفاقيات ثنائية حتى الآن. كما صاغ بيسنت صفقة أبريل التي تمنح الولايات المتحدة مصلحةً اقتصاديةً في احتياطيات أوكرانيا من المعادن والطاقة. ومن العناصر الأخرى التي وضعها ترمب على قائمة مهامه: مراجعة محفظة قروض الطلاب الحكومية، والتي يبلغ حجمها 1.7 تريليون دولار وتشكل أكبر أصل منفرد في الميزانية العمومية للولايات المتحدة.

كيف يؤثر "القانون الكبير الجميل" على العلوم والابتكار في أميركا؟

عندما واجه تشريع ترمب المحلي المميز المسمى ”القانون الكبير الجميل“ عقبات في الكونغرس، كان بيسنت فعالاً في تمهيد الطريق، أولاً من خلال التفاوض على حل وسط مع أعضاء مجلس الشيوخ بشأن الإعفاء الضريبي للمناطق ذات تكلفة المعيشة المرتفعة ثم من خلال إقناع الجمهوريين الرافضين في مجلس النواب بقبول جدول زمني للتخلص التدريجي من الإعفاءات الضريبية للطاقة النظيفة.

في مقابلاته، رفض اتهامات بأن الحزب انغمس في حيل محاسبية تبالغ في تقدير الفوائد الاقتصادية لمشروع القانون مع التقليل بشكل صارخ من تأثيره على الدين الاتحادي. كما حل خلافاً دولياً بشأن ضرائب الشركات، وكانت النتيجة أنه بموجب اتفاقية مع وزراء مالية مجموعة السبع، ستُعفى الشركات الأميركية من ضريبة الحد الأدنى العالمية على الشركات متعددة الجنسيات.

خلافة باول ليست هدفه

بينما يقول إنه ليس لديه أي مصلحة في خلافة باول، الذي اعتاد ترمب جلده رغم أنه كان من عينه خلال ولايته الأولى، فإن بيسنت يتولى البحث عن رئيس جديد لمجلس الاحتياطي الفيدرالي.

قال دروكنميلر، الذي اعتاد بيسنت التحدث إليه يومياً عندما كان يدير صندوقه التحوطي: "أنا معجب ببراعته في التعامل مع البيئة السياسية". يحب بيسنت أن يُطلق على نفسه لقب "أفضل بائع سندات في البلاد"، مُستحضراً صورة رجلٍ عابس يعاين قسائم العوائد من خلال نظارة عدساتها خضراء في مكتب جوه خانق.

لكن عملياً، تحولت وزارة الخزانة، التي يعمل فيها 100 ألف موظف تحت إشرافه إلى وزارة لكل شيء، إذ تجدها تعنى في أي يوم تنظر إليها فيه بالتفاوض على صفقات التجارة وصياغة السياسة المالية وتعزيز الأمن القومي.

ترمب يفتح النار مجدداً على باول: لا يصلح كرئيس للفيدرالي

حتى أن بيسنت يشغل منصب القائم بأعمال مفوض دائرة الإيرادات الداخلية. كل هذا يمنحه نفوذاً هائلاً على الاقتصاد الأميركي ويكشف أنه عملياً، يتجاوز دوره كمرشد للرئيس بشدة.

وُلد بيسنت في كونواي بولاية ساوث كارولينا لعائلة بارزة تعود جذورها في أميركا إلى الهوغونوتيين الفرنسيين في القرن السابع عشر، وكان الأكبر بين ثلاثة أطفال. كان والده، هومر، مؤسس شركة عقارات على شاطئ غراند ستراند بالولاية وكان من ركائز الحياة المدنية المحلية.

كان بيسنت يأمل في البداية بأن يلتحق بالأكاديمية البحرية الأميركية وعرض عليه عضو الكونغرس المحلي أن يدعم طلبه لكنه رفض ذلك ويقول إن مرد ذلك لخشيته من خطر المحاكمة العسكرية لأنه مثلي. بدلاً من ذلك التحق بجامعة ييل، حيث تخصص في العلوم السياسية.

من الثراء إلى العناء

ظاهرياً، نسب بيسنت القديم جعله متوائماً تماماً ليكون في جامعة ييل الأنيقة في أوائل الثمانينيات. باستثناء أن شركة أسرته تعرضت للإفلاس. قال: "لقد كنا في وضع مادي جيد جداً وقد خسر والدي كل شيء". بينما كان بإمكان زملائه الطلاب شراء السيارات والملابس الفاخرة -مثلاً كان والد منوشين يعمل في ”غولدمان ساكس“- كان على بيسنت السعي لمنحة دراسية والعمل في وظائف بدوام جزئي.

كان لدى بيسنت آمال في العمل بالصحافة، لكن بعد أن ترشح لرئاسة تحرير صحيفة جامعته ”ييل ديلي نيوز“ ولم ينجح، استجاب لإعلان رآه في الحرم الجامعي ليتدرب في مكتب عائلة جيم روجرز، وهو خريج جامعة ييل شارك سوروس في تأسيس صندوق ”كوانتوم“ في 1973، وكان قد تقاعد حديثاً ليدير أمواله الخاصة ويتجول حول العالم على دراجته النارية.

لقد اختار بيسنت كمتدرب صيفي وسمح له بأن ينام على أريكة في مكتبه في نيويورك. وجد بيسنت العمل جذاباً وانتقل إلى وظائف بدوام كامل في ”براون برذرز هاريمان“ (Brown Brothers Harriman)، وهي شركة وساطة، ومجموعة "العليان"، وهي شركة تملكها عائلة سعودية؛ و“كينكوس أسوشيتس“ (Kynikos Associates)، وهي شركة استثمارية أسسها خرية جامعة ييل جيم تشانوس. وفي أغسطس 1991 انضم إلى ”سوروس فَند مانجمنت“ (Soros Fund Management) في نيويورك.

"عقل كبير وأخلاقيات عمل رائعة"

كانت صناعة صناديق التحوط ما تزال جديدة نسبياً، ولم يكن سوروس قد أصبح أسطورةً في وول ستريت بعد. أثار بيسنت، حين كان في عامه 29، إعجاب دروكينميلر، الذي كان آنذاك كبير مسؤولي الاستثمار في الشركة، والذي وجده فضولياً على الصعيد الفكري وأعجبه بشكل خاص أنه تعلم بيع الأسهم على المكشوف أثناء عمله لدى تشانوس.

قال دروكينميلر: "كان لديه عقل كبير وأخلاقيات عمل رائعة". في غضون أشهر، أرسله دروكنميلر إلى لندن، حيث أفاد بيسنت، بعد دراسة سوق الإسكان في المملكة المتحدة، أن كثيراً من المقترضين بالكاد يستطيعون سداد أقساط الرهن العقاري.

بفضل بيسنت، أدرك دروكنميلر أن بنك إنجلترا لا يستطيع رفع أسعار الفائدة كثيراً دون إثارة موجة من تخلف أصحاب المنازل عن السداد وكارثة على الاقتصاد. شن دروكنميلر وسوروس هجوماً، فقاما ببيع الجنيه الإسترليني على المكشوف بلا هوادة لدرجة أنه في 16 سبتمبر 1992، وهو اليوم التالي الذي عُرف باسم"الأربعاء الأسود"، لم يكن أمام المملكة المتحدة خيار سوى خفض قيمة عملتها. حققت هذه الصفقة لسوروس ربحاً غير مسبوق آنذاك تجاوز مليار دولار، وأطلق عليه لقب "الرجل الذي حطم بنك إنجلترا".

ظهرت إحدى العلامات المبكرة على ثقة وول ستريت في ببيسنت في عام 2000، عندما غادر شركة ”سوروس فند مانجمنت“ ليؤسس شركته الخاصة. كانت شركة ”بيسنت كابيتال مانجمنت“، في ذلك الوقت، أكبر إطلاق لصندوق تحوط على الإطلاق، فقد جمعت مليار دولار من عملاء منهم سوروس نفسه.

هناك، صقل بيسنت المهارات والأسلوب الذي ميزه عن زملائه من مديري الاستثمار ”الكلي“، أي المستثمرين الذين يترجمون رؤاهم حول كيفية عمل الاقتصاد العالمي إلى رهانات على أسواق السندات والأسهم والعملات والسلع.

بينما كان دروكنميلر، معلمه، أميل إلى التداول بطبيعته، انغمس بيسنت في آليات صنع السياسات. قال ديفيد سيرا، الذي التقى بيسنت لأول مرة في  1998 أثناء عمله كمحلل في ما كان يُعرف آنذاك باسم ”يو بي إس واربورغ“ (UBS Warburg): "كان لديه فهم واضح لكيفية عمل البنوك المركزية واتخاذ القرارات… كان االآخرون في الاستثمار الكلي يركزون على الأحداث الواقعية. لقد رأى فرصة في الصدام بين النظرية والتطبيق".

توافق قديم مع عقلية ترمب

بقي سيرا، الذي أسس شركة ”ألجيبريس إنفستمنت“ (Algebris Investments) في لندن، على اتصال مع بيسنت، وحرص على رؤيته في كلما سافر إلى نيويورك. بينما دارت أحاديثهما في الغالب حول السياسة الاقتصادية والاستثمار، يتذكر مواقف عديدة عبّر فيها بيسنت عن آراء تُعدّ، في وقت لاحق، متوافقة مع سياسات ترمب.

أراد طرد الصين من منظمة التجارة العالمية، واشتكى من عدم إنفاق أوروبا ما يكفي على الدفاع، وكان قلقاً من أن الولايات المتحدة قد فقدت كثيراً من إمكانات الحراك الاجتماعي لدرجة أن شاباً في الثامنة عشرة من عمره اليوم لن يحظى بنفس الفرص التي حظي بها شخصياً.

 بحلول 2005، وبعد أن خسرت بعض استراتيجيات ”بيسنت كابيتال“ أموالاً، حوّل الصندوق إلى مكتب عائلي وأعاد رؤوس الأموال إلى مستثمريه. وعاد إلى جامعة ييل كأستاذ مساعد فيما عمل مستشاراً لصندوق تحوط إلى جانب ذلك.

لربما بقي بيسنت في جامعته الأم لو لم يكن سوروس بحاجة لخدماته مجدداً. في 2011، قبل منصب كبير مسؤولي الاستثمار، مسؤولاً عن محفظة ”سوروس فند مانجمنت“ الاستثمارية وحجمها 25 مليار دولار.

يتذكر موظفو ”سوروس فند مانجمنت“ بيسنت كمدير مخاطر بارع يتمتع بمهارة تجنب الكوارث. في 2014، على سبيل المثال، رفض طلباً لتمويل رهان ضد الفرنك السويسري. بعد ذلك بوقت قصير، ألغت سويسرا ربط عملتها باليورو، فارتفعت قيمة الفرنك واضطرت الشركة التي اقترحت ذلك الرهان، وهي ”إيفرست كابيتال“، لطلب الحماية من الإفلاس.

اتضح أن العمل مع سوروس كان تدريباً جيداً للعمل في إدارة ترمب. يقول بيسنت: "يتمتع الرئيس ترمب بتحمل مذهل للمخاطرة وغريزة بقاء مذهلة… وكذلك السيد سوروس".

 

على عكس كثير من الشخصيات النافذة في وول ستريت، ومنهم سوروس، حافظ بيسنت على صمته وبقي بعيداً عن الأضواء خلال عمله في القطاع المالي. قبل أن يبرز كمدافع علني عن ترمب في أوائل 2024، يقول إنه آمن بمبدأ البروتستانت البيض الأنغلوساكسونيين القائل بأن اسم الرجل النبيل لا ينبغي أن يظهر في الصحف أكثر من ثلاث مرات طوال حياته: إعلاناً لميلاده ولزواجه ولوفاته. وإذا كانت لديه أي طموحات سياسية، فقد احتفظ بها لنفسه.

تبرع بيسنت بأموال لمرشحين من كلا الحزبين، معظمها للجمهوريين، وبعضها للديمقراطيين. لم يكن هناك أي شيء في نمط مساهماته السياسية يوحي بأنه يرغب في دعم أجندة ترمب "أميركا أولاً" المتمثلة في الرسوم الجمركية والترحيل والانعزالية.

قال دروكنميلر: "لقد فوجئت". اعتبره هو وآخرون مقربون من بيسنت "جمهورياً من مؤيدي ريغان"، ومحافظاً مالياً يؤمن بالأسواق الحرة والتجارة الحرة والحكومة الصغيرة.

قال بيسنت الآن إن الحقيقة هي أنه فكر بالانضمام إلى حملة ترمب الأولى للبيت الأبيض في 2016. ولكن في ذلك الوقت كان قد ترك سوروس ليبدأ شركة جديدة، وهي مجموعة ”كي سكوير“ (Key Square). 

بيسنت: مكانة الدولار العالمية مسألة حيوية للاقتصاد الأميركي

بيّن بيسنت أنه رفض التخلي عن موظفيه، الذين تبعه الكثير منهم من ”سورس فند مانجمنت“، والعملاء المؤسسيين مثل صندوق معاشات ضباط شرطة مدينة نيويورك. في النهاية، تبرع بمليون دولار لحفل تنصيب ترمب في ولايته الأولى وبدا أنه ابتعد عن مشهد السياسة. إلا أنه لم يفعل ذلك حقاً. فقد انجذب إلى شخصيات في مدار ترمب، ومنهم ستيف بانون، الذي التقى به في منتدى للمستثمرين في هونغ كونغ عام 2017.

يستذكر بانون، الذي كان قد طُرد بحلول ذلك الوقت من وظيفته ككبير استراتيجيي ترمب: "لقد قدّرته بسرعة على أنه أذكى رجل في الغرفة“. أراد أن يعرف كل شيء عن اقتصاد ترمب، وكيف ينظر إلى العالم، وكيف سيترجم ذلك إلى سياسات فعلية تؤثر على أسواق رأس المال العالمية.

قال بانون إن علاقتهما توطدت أكثر خلال مأدبة طعام استمرت أربع ساعات في اليوم التالي، مضيفاً أنهما يتحدثان أو يتبادلان الرسائل النصية بانتظام منذئذ.

قفزة صعبة

إن كسب ثقة أتباع حركة ”لنعد لأميركا عظمتها" سيمثل تحدياً لمدير صندوق تحوط ثري ذي علاقات وثيقة مع سوروس، بطل نظريات المؤامرة اليمينية التي لا تنتهي، الذي وصفته قناة ”فوكس نيوز“ بأنه "الرجل الأكثر شراً في العالم“.

في الفترة التي سبقت انتخابات 2024، طلب بيسنت نصيحة بانون حول كيفية وضع نفسه كمرشح لمنصب وزير الخزانة أو أي منصب اقتصادي رفيع آخر في إدارة ترمب الثانية. أصدر بانون توجيهاً من ثلاث نقاط: تعرّف على القضايا الاقتصادية التي يهتم بها ترمب أكثر من غيرها، وخاصة التجارة. تعرّف على الأشخاص المحيطين بترمب، بمن فيهم حراس البوابة في عالم الإعلام اليميني المؤيد لحركة ”لنعد لأميركا عظمتها". وبناء علاقة مع ترمب نفسه من خلال التقدم كمانح رئيسي ووكيل عن وول ستريت.

لقد ساعد في ذلك أن بيسنت كان صديقاً لشقيق ترمب الراحل روبرت وأن أرملته هي عرابة ابنته. أخذ بيسنت التوجيه على محمل الجد، وأنشأ علاقات مع مستشارين تجاريين واقتصاديين رئيسيين لترمب، ومنهم كيفن هاسيت وبيتر نافارو وستيفن مور.

لقد تعاقد مع مسؤولة علاقات بانون العامة ألكسندرا بريت لترتيب تقديم نفسه ومساعدته على إحراز تقدم. كما بدأ يشارك في البرامج الإذاعية والبودكاست المؤيدة لحركة ”لنعد لأميركا عظمتها“، مثل (Bannon‘s War Room) و(Breitbart News Saturday)، لترويج اسمه والتحدث عن ترمب وسياساته.

الاقتصاد العالمي يحتاج إلى ثورة في جانب العرض

يروي آرثر لافر، الخبير الاقتصادي الذي وجهت نظرية جانب العرض الخاصة به خفض الضرائب في عهد رونالد ريغان، كيف أتى بيسنت إلى ناشفيل لطلب دعمه. قال لافر: "لقد جاء إلى هنا لقضاء ليلة والتعرف عليّ. لقد أراد بشدة تأييدي لمنصب وزير الخزانة. وجدته شخصاً مثيراً للإعجاب: لقد حقق أرباحاً طائلة، وله سجل حافل، وهو زميل من جامعة ييل -وهو أمر مهم بالمناسبة- ويمتلك كل المهارات والثقة بالنفس اللازمة لذلك".

زخم لا يعرف هوادةً

في نوفمبر 2023، قرر بيسنت اتخاذ خطوته. في اجتماع مع ترمب في مارالاغو، شرح سبب اعتقاده بأنه سيفوز في الانتخابات، وقال إنه يريد المشاركة في الحملة.

يقول بيسنت الآن إن ترمب كان يتمتع بزخم لا يعرف هوادةً، مثل سهم يرتفع حتى في حالة الأخبار السيئة. أضاف: ”يُوجه إليه اتهام وترتفع شعبيته… يخسر محاكمة وسترتفع شعبيته". يتذكر بيسنت أنه خلال تلك الزيارة، سأله ترمب عما إذا كان يريد رئاسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي، فلم يصطنع الخجل: "قلت، لا، هناك وظيفة أخرى أرغب فيها“.

بمرور الوقت، نال بيسنت القبول في دائرة ترمب. قال لاري كودلو، الذي شغل منصب مدير المجلس الاقتصادي الوطني في إدرارة ترمب الأولى وهو الآن مذيع تلفزيوني في قناة ”فوكس بيزنس“: "عندما تعرفت عليه، أدركت أنه يتمتع بذكاء شديد وخبرة كبيرة في الأسواق وقاعدة معرفية رائعة“.

بالنسبة للافر، فإن مزيج مهارات بيسنت وشخصيته و"حضوره الهادئ" هو ما يجعله جذاباً. قال: “لقد كان قادراً على التأثير على القرارات بشكل صحيح، ليس عن طريق المواجهة أو متابعة أجندة سرية ولكن من خلال اقتراح أشياء ربما لم تخطر على بال ترمب… لقد رأيت ذلك فيه، ولهذا السبب أوصيت به لترمب“.

بمجرد أن فاز ترمب في الانتخابات، كان بيسنت، وفقاً لبورصة المراهنين، المرشح الأوفر حظاً لمنصب الخزانة. لكن سرعان ما انتشرت تكهنات حول منافسين آخرين مثل جون بولسون، وهو مدير آخر لصندوق التحوط حقق ثروته خلال الأزمة المالية الكبرى؛ وهوارد لوتنيك، الرئيس التنفيذي لبنك الاستثمار ”كانتور فيتزجيرالد“ (Cantor Fitzgerald) ورئيس فريق ترمب الانتقالي؛  وبيل هاغرتي عضو مجلس الشيوخ عن ولاية تينيسي؛ وكيفن وارش، وهو حاكم سابق لدى مجلس الاحتياطي الفيدرالي؛ ومارك روان، الرئيس التنفيذي لشركة ”أبولو غلوبال مانجمنت“.

خيارات الرئيس مفتوحة

بحلول أسبوع 18 نوفمبر 2024، لم يكن لدى بيسنت أي فكرة عن فرصته في بلوغ هدفه. في ليلة الأربعاء تلك، انضم إلى الابن الأكبر للرئيس المنتخب، دون جونيور، واثنين من زملائه المقربين، لتناول العشاء في كاريدج هاوس، وهو نادٍ اجتماعي فاخر مخصص للأعضاء فقط في بالم بيتش بولاية فلوريدا.

كان يجلس إلى الطاولة أيضاً: روان، الذي أجرى مقابلة مع ترمب في وقت سابق من اليوم بعدما قطع رحلة عمل إلى هونغ كونغ وسافر مباشرةً إلى مارالاغو.

مسترجعاً الذكريات، هز بيسنت كتفيه وقال: ”الرئيس… يبقي خياراته مفتوحة". كان بيسنت في بالم بيتش عندما اتصل به ترمب ليعرض عليه الوظيفة في 22 نوفمبر. وكان على الخط أيضاً نائب الرئيس المنتخب جيه دي فانس وسوزي وايلز، مديرة حملة ترمب، وكلاهما، وفقاً لشخص مطلع على الأمر، قد فضلا بيسنت على لوتنيك.

قال هذا الشخص إن وايلز، رئيسة موظفي ترمب الآن، ما تزال حليفةً رئيسيةً في عديد من معارك المكتب البيضاوي. ولا يلجأ إليها بيسنت بمشكلات، وإذا أبدى أي مخاوف بشأن أمر ما، فإنها تستمع إليه.

كما صرح ترمب للصحفيين بأنه يجد من بيسنت حضوراً "مُهدئاً" في حكومته. وحديثاً، عند إعلانه عدم ترشيح بيسنت لخلافة باول، قال: "إنه لا يريد ذلك. إنه يحب منصب وزير الخزانة. إنه يؤدي عمله على أكمل وجه".

 

منذ انتقاله من عالم المال إلى السياسة، اعتاد بيسنت على شرح كيفية مواءمته بين معتقداته الشخصية وتطرفات تيار ترمب ”لنعد لأميركا عظمتها". يقول: "كنت أشعر بالإحباط نوعاً ما حيال ما كان يحدث مع إدارة بايدن".

يعتقد بيسنت أن الصناعة الأميركية تُخنق بسبب فرط في التنظيم، ويعترض على حجم الإنفاق الحكومي على البرامج الاجتماعية التي، في رأيه، لم تُساعد في تمهيد الطريق نحو رخاء الأميركيين العاديين. ويرى أن المؤسسة السياسية قد فشلت، سواء الجمهورية أو الديمقراطية. قال: "لقد ابتعدنا عن الرأسمالية الأساسية… أنا قلق جداً من أن لا أحد يثق بهذه الأحزاب الآن".

تلاعب بنظام التجارة العالمي

يرى بيسنت أن المشكلة تنبع من عقود من السياسة الأميركية التي أعطت الأولوية للواردات الرخيصة، ما سمح للصين ودول جنوب شرق آسيا، وحتى الدول الأوروبية مثل ألمانيا، بالتلاعب بنظام التجارة العالمي.

وقال: "في الماضي، كانوا يبيعوننا تلفاز (سوني ترينيترون)، وكنا نبيعهم سيارات (جنرال موتورز)… مع تراجعنا عن التصنيع وتبنينا للتمويل، كنا نبيع لهم الملكية الخاصة، أو أسهم (جوجل)، أو سندات خزانة. كل ذلك له آثار توزيعية. ينتهي بك الأمر بثراء فاحش في المناطق الساحلية، وقلة ثراء في المناطق الوسطى“.

أثناء عمله مع حملة ترمب الانتخابية لعام 2024، طرح بيسنت خطة اقتصادية أطلق عليها اسم "3-3-3"، لأنها استهدفت نمواً سنوياً في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3%، وعجزاً في الميزانية بقدر 3% منه، وزيادة 3 ملايين برميل يومياً في إنتاج النفط المحلي.

ثم، بصفته وزيراً للخزانة، دافع عن مشروع "قانون واحد كبير وجميل" (One Big Beautiful Bill Ac)، الذي قدر مراقبو الميزانية في الكونغرس أنه سيزيد العجز بمقدار 3.4 تريليون دولار على مدى السنوات العشر المقبلة.

رئيس "جيه بي مورغان" يحذر من ركود تضخمي في أميركا ويشيد بموقف باول

توقعت مجموعة ”غولدمان ساكس“ في أوائل أغسطس فجوة بنسبة 6.6% بين الدين والناتج المحلي الإجمالي لعام 2028. ويقول بيسنت إن هذه التقديرات لا تأخذ في الاعتبار بشكل صحيح كيف ستؤدي تخفيضات ترمب الضريبية وإلغاء القيود والسياسات التجارية إلى تعزيز الاقتصاد. أضاف: "إذا قيدت الإنفاق، وهو ما نفعله، وحققت نمواً بنسبة 3%، فإن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ستنخفض“.

بالنسبة للمنتقدين، فإن بيسنت يؤيد عكس ما قال إنه هدفه. فبدل خفض العجز، كما يقولون، فإنه يستحضر نفس المقولة القديمة "تخفيضات الضرائب تدفع ثمن نفسها" التي استخدمها لافر وغيره من مؤيدي جانب العرض لعقود.

إذا قيدت الإنفاق وحققت نمواً بنسبة 3%، فإن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ستنخفض

سكوت بيسنت وزير الخزانة الأميركي

تقول مايا ماكغينيس، التي ترأس لجنة الميزانية الفيدرالية المسؤولة، وهي جهة غير ربحية وغير حزبية: "إن مزاعم النمو الاقتصادي المستدام التي ستنجم عن هذا القانون مبالغ فيها بشكل كبير". تضيف أن بيسنت يتمتع بسمعة "بالاهتمام بالقضايا المالية من قبل أن يصبح جزءاً من الإدارة… لكن دفاعه عن مشروع قانون التسوية (البرلمانية)، الذي كان بمثابة هدم مطلق للميزانية، وقد أضر بمصداقيته بشأن هذه القضية حقاً“.

حتى منوشين يقر بصعوبة استعادة الانضباط المالي بعد تمرير مثل هذا القانون المكلف. قال: "في ولاية ترمب الأولى، كان أسهل أن نخرج من التخفيضات الضريبية عبر النمو… كانت لدينا أسعار فائدة أقل، وعجز أصغر، وديون أصغر. الآن لديك أسعار فائدة أعلى، وعجز أكبر، وديون أكبر".

العجز الأميركي يحول المستثمرين من السندات الحكومية إلى ديون الشركات

إن محاسبة بيسنت على ما قاله خلال الحملة الانتخابية أمر عادل بالطبع. في النهاية، ما يهم هو ما إذا كانت إدارة ترمب ستُحطم الميزانية أم لا. قال نيل دوتا، رئيس قسم الأبحاث الاقتصادية في ”رينيسانس ماكرو“ (Renaissance Macro): "في بعض الأحيان تحتاج إلى أن تقول أشياء لتضع نفسك في موقع نفوذ… لم يكن بيسنت قديساً مالياً أبداً. ولكن يصعب القول إنه لا يهتم بالعجز عندما تكون الرسوم الجمركية قد خلقت للتو أول مصدر رئيسي جديد للإيرادات الاتحادية منذ فترة طويلة".

أظهر بيسنت أيضاً مرونة عقائدية بشأن التجارة. بعد أن بدأ في الدعوة إلى نهج تدريجي أكثر للرسوم الجمركية، يقول الآن إن تهديدات ترمب المتطرفة كانت حاسمة في الحصول على تنازلات من الشركاء التجاريين وجذب الاستثمار إلى الولايات المتحدة.

قال بيسنت إنه من خلال مناورة ترمب في يوم التحرير ”أحدث الرئيس هذا القدر الهائل من النفوذ… كان الناس يعرفون أنه جاد". ما يزال كثير من الرؤساء التنفيذيين يحسبون تأثير الحرب التجارية لترمب، والتي رفعت الرسوم الجمركية الفعلية على السلع المستوردة إلى الولايات المتحدة إلى نحو 14%، أي حوالي ستة أضعاف مستواها لدى توليه، وفقاً لحسابات بلومبرغ إيكونوميكس.

يقدّر جيم فارلي من شركة ”فورد موتور“ أن الرسوم ستكلف شركته ملياري دولار في 2025. من بين الشركات التي ترفع أسعارها لتعويض أثر الرسوم نجد ”نايكي“ و“بروكتر آند غامبل“ و“ستانلي بلاك آند ديكر“. كما أن الأميركيين المنهكين من التضخم حذرون أيضاً. بينت استطلاعات غالوب انخفاض نسبة المشاركين الذين وافقوا على تعامل ترمب مع الاقتصاد إلى 37%، من 42% في فبراير.

دور غير نمطي

مثل أي شخص آخر، تعلّم بيسنت بشكل مباشر كيف هو الحال مع تنفيذ كتيب عمل ترمب. في معظم الإدارات، يكون الممثل التجاري للولايات المتحدة هو من يقود المفاوضات التجارية. بينما كان جيمسون غرير، الممثل التجاري الحالي للولايات المتحدة، مشاركاً فقد قاد بيسنت المحادثات التي أسفرت عن مسودات اتفاقيات مع اليابان وإندونيسيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية.

جزء من سبب مشاركة بيسنت الكبيرة هو معرفته العميقة بآسيا، وخاصة اليابان، الدولة التي يقول إنه زارها أكثر من 50 مرة.

تتضمن عدة من الصفقات التي ساعد في إبرامها أحكاماً جديدة تلبي حب ترمب للمظاهر. على سبيل المثال، بالإضافة إلى قبول رسوم جمركية شاملة قدرها 15% على الصادرات، وافقت اليابان على إنشاء صندوق بمليارات الدولارات للاستثمار في الولايات المتحدة.

في صورة تذكارية أصدرها البيت الأبيض، يجلس الوفدان التجاريان الأميركي والياباني أمام ترمب وبطاقة كبيرة تعرض الرقم 400 مليار دولار مشطوباً و500 مليار دولار مكتوبة بخط اليد فوقها. كان الرقم النهائي أعلى من ذلك، فقد بلغ 550 مليار دولار.

بشكل منفصل، وافقت كوريا الجنوبية على استثمار 350 مليار دولار في الولايات المتحدة. وكان التوصل إلى اتفاق تجاري مع الصين أصعب، خاصة بعدما ردت البلاد في أعقاب يوم التحرير برفع الرسوم الجمركية على الواردات الأميركية.

التقى بيسنت وغرير بوفد صيني في جنيف في مايو وخرج بهدنة هشة. خفضت الولايات المتحدة رسومها الجمركية على السلع الصينية إلى 30% من 145%، وخفضت الصين بدورها ضريبتها على السلع الأميركية إلى 10% من 125%. وعادت التوترات مجدداً في أواخر مايو عندما رفضت بكين رفع ضوابط التصدير على المعادن الأرضية النادرة -وهي ضرورية لكل شيء من أجهزة ”أيفون“ إلى أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي إلى الصواريخ- حتى خففت واشنطن القيود المفروضة على شحنات أشباه الموصلات المتطورة.

التعامل مع الصين كخطر وشريك

تمثل الصين تحدياً خاصاً كشريك تجاري للولايات المتحدة، لأنها ليست مجرد منافس اقتصادي بل خصماً جيوسياسياً وتهديداً أمنياً.

لهذا السبب احتج صقور الدفاع، وكثير منهم متحالفون مع ترمب، عندما سمحت الإدارة للصين باستئناف شراء رقائق (H20) من شركة ”إنفيديا“ بغرض كسر الجمود، والتي تحتاجها لتشغيل تقنية الذكاء الاصطناعي المتقدمة.

كانت الجولة الثالثة من المفاوضات الأميركية الصينية، التي عُقدت في ستوكهولم في نهاية يوليو، غير حاسمة، وفي 11 أغسطس، مدد ترمب هدنة الرسوم الجمركية لمدة 90 يوماً إضافية.

قال بيسنت للصحفيين: "لدينا مقومات صفقة من شأنها أن تفيد أمتينا العظيمتين. يقول مسؤولون تجاريون سابقون إن الأمر قد يستغرق سنوات حتى تتجسد اتفاقية نهائية نظراً لاتساع وتعقيد القضايا الأساسية. أما بالنسبة للمستثمرين، فإن المستوى أقل بكثير: كل ما يريدونه حقاً هو أن يمنع بيسنت التوترات من الغليان.

الدول الفقيرة أول من يكتوي بنار رسوم ترمب

في النهاية، قد تثبت سوق الصرف الأجنبي أنها الأداة الأجدى لبيسنت ضد الصين والدول ذات التفكير المشابه التي تصمم على إضعاف قوة أميركا ونفوذها. وبصفته شخصاً انغمس في الشؤون العالمية والأسواق على مرّ عقود، فإنه يفهم كيف يمنح دور الدولار كعملة رئيسية للتجارة والمدفوعات عبر الحدود واحتياطيات البنوك المركزية بلاده سيطرة بلا مثيل على النظام المالي العالمي.

بالنسبة لبيسنت، فإن "ترسيخ تفوق الدولار" هو الأولوية رقم 1 أثناء وجوده في وزارة الخزانة. قال: “لماذا تريد روسيا والصين وإيران الخروج من قضبان مدفوعات الدولار هذه؟ لأنه عندما يكون هناك سلوك سيئ، يمكننا أن نشدد عليهم بقوة عبر العقوبات… لدينا قوة خارج الحدود الإقليمية عبر الدولار". 

لم تخلُ فترة ولاية بيسنت في واشنطن من الحوادث، بالطبع. جاءت إحدى نقاط التوتر مبكرةً، عندما منح موظفي إدارة كفاءة الحكومة التابعة لإيلون ماسك إمكانية الوصول الجزئي إلى الأنظمة الداخلية التي تستخدمها وزارة الخزانة لمعالجة تريليونات الدولارات سنوياً من المدفوعات الاتحادية.

انتقده الديمقراطيون بشدة، ووصفت سيناتور ماساتشوستس إليزابيث وارن ذلك بأنه "سوء إدارة مذهل"، لكن بيسنت، الذي كان في البداية من أشد المعجبين بماسك، تمسك بموقفه، وفي النهاية بُرئ بقرار محكمة.

صدام مع إيلون ماسك

لم يدم حسن النية طويلاً. ففي منتصف أبريل، اصطدم بيسنت، الذي يتميز بدماثة بنفس قدر خشونة ماسك، مع الملياردير مؤسس شركتي”تسلا“ و“سبيس إكس“ حول من ينبغي أن يرأس مصلحة الضرائب الداخلية، وهي وحدة تابعة لوزارة الخزانة.

كان الخلاف شديداً وقيل أنه بلغ الأمر حدّ الصياح وتبادل الشتائم. صرّح بانون لصحيفة واشنطن بوست بحدوث مواجهة جسدية. وبعد بضعة أسابيع، دخل ماسك المكتب البيضاوي وقد بدت كدمة على عيبنه.

عندما طُلب منه شرح ما حدث بينهما، لم يُفصح بيسنت عمّا إذا كان الأمر قد وصل إلى حدّ الشجار، لكنه أشار بلمسة من الفكاهة الساخرة: "أستطيع أن أقول بنسبة 100% إنني لم أُصبه بكدمة العين“.

كان أحد التحديات الأخرى التي واجهها بيسنت هو الدفاع عن موقف ترمب من البنك المركزي الأميركي. على مرّ عقود، عمل بنك الاحتياطي الفيدرالي باستقلال شبه كامل، فقد حدد أسعار الفائدة وأدى جوانب أخرى من مسؤولياته القانونية دون تدخل من الكونغرس أو الرئاسة. ينتقد ترمب باول بانتظام لعدم خفض أسعار الفائدة ولم يتراجع إلا حديثاً عن التهديد بطرده.

أثناء تقديم المشورة لترمب خلال الحملة، طرح بيسنت فكرة استفزازية هي اختيار رئيس ظل لمجلس الاحتياطي الفيدرالي يكون خليفةً محتملاً لباول يمكنه توجيه رغبات الرئيس والضغط على محافظي البنك المركزي حتى لو لم يكن هو أو هي من يدير المجلس بعد.

بيسنت، الذي تخلى عن الفكرة منذ ذلك الحين، يسير على خط أدق، مؤكداً من ناحية أن دور الاحتياطي الفيدرالي في تحديد أسعار الفائدة هو "صندوق مجوهرات" واستقلاليته مقدسة بينما يجادل من ناحية أخرى بأن البنك المركزي يعاني من ”انسلال من المهمة" ويحتاج إلى إجراء مراجعة صارمة لبقية عملياته.

وقال: "لقد أصبح قدرهم في الاقتصاد أكبر مما يجب"، متهماً الاحتياطي الفيدرالي بالمبالغة في تنظيم البنوك وشبّه شراءه للسندات في زمن كوفيد بنوع من التحول الفيروسي بغرض "اكتساب وظيفة“.

ضبط الاحتياطي الفيدرالي

الآن بعد أن انسحب بيسنت من الترشح لرئاسة الاحتياطي الفيدرالي، قال ترمب إنه يفكر في هاسيت، وكبير مستشاريه الاقتصاديين، ورش، المحافظ السابق في الاحتياطي الفيدرالي، واثنين آخرين. كما أن المحافظ الحالي لدى لاحتياطي الفيدرالي كريستوفر والر، الذي رشحه ترمب في ولايته الأولى، مرشح محتمل أيضاً.

بالنسبة لوول ستريت، فإن السؤال الكبير الذي يحوم حول بيسنت هو ما إذا كانت الأسواق المالية ستبقى في صفه بينما تحاول إدارة ترمب إعادة هيكلة نظام التجارة العالمي وهندسة نهضة صناعية محلية.

بيسنت لا يرى مبرراً لاستقالة باول من الاحتياطي الفيدرالي حالياً

إذا استمرت الأسهم في انخفاض طويل الأمد، فقد تتبخر ثقة المستثمرين. من شأن ارتفاع مطول في عائدات السندات أن يدمر الميزانية أكثر من خلال رفع تكلفة الاقتراض الإتحادي. قال بول تيودور جونز الذي تنافس صندوقه التحوطي ”تيودور إنفستمنت“ ويبلغ حجمه 16 مليار دولار مع صندوق بيسنت "كي سكوير" لسنوات: "يمكن أن تكون الأسواق متقلبة، وفي العقد الماضي، مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، تميل إلى أن يكون لديها عقلية غوغائية… لذا، فإن وجود أذكى شخص في الغرفة على رأس القيادة أمر بالغ الأهمية. إنه الشخص الوحيد الذي أعرفه القادر على القيام بهذه المهمة لهذا الرئيس".

بالنسبة لبيسنت، المؤمن باقتصاديات عدم التدخل، بديهي أن خفض الضرائب وتحرير الصناعة سيعززان الاستثمار ويخلقان فرص عمل. ما يدفعنا إلى تجاوز نطاق تأثير التسرب إلى المجهول الكبير هو فكرة أن الرسوم الجمركية ستجبر الشركات على إعادة الإنتاج داخل البلاد وتعزز الرواتب في الولايات المتحدة، مع توليد تدفق مستمر من الإيرادات للحكومة. (في يونيو، جمعت الولايات المتحدة 26.6 مليار دولار من الرسوم على الواردات، بزيادة قدرها أربعة أضعاف عن الفترة نفسها من 2024).

ستؤدي عمليات الترحيل إلى تقليل المعروض من العمالة منخفضة التكلفة، ما سيساعد على رفع الأجور. نظرياً، سيؤدي هذا المزيج غير المجرب من السياسات إلى انتعاش كبير في النمو، فينكمش كل من العجز والدين الاتحاديين كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. ومع عودة الاقتصاد إلى عافيته، سيظل الدولار قوياً. نبوءة لعصر ذهبي جديد.

أو أن ذلك غير صحيح. يتوقع كثير من الاقتصاديين بدلاً من ذلك وصفة لارتفاع الأسعار وانخفاض الطلب. الرسوم الجمركية، إذا طُبقت بشكل غير متسق كما هو الحال حتى الآن، تخلق نوعاً من عدم اليقين الذي يعيق الاستثمار والتوظيف.

المجهول الذي يواجهه بيسنت

ماذا لو انتهى الأمر بسياسات ترمب إلى تحميل البلاد ركوداً تضخمياً، وديوناً لا يمكن إدارتها، وأضراراً بيئية لا رجعة فيها- إعادة سبعينيات القرن الماضي في القرن الحادي والعشرين؟ باستثناء تشنجات "يوم التحرير"، لم يواجه بيسنت حتى الآن كثيراً من الاضطرابات في السوق أو أي شيء قريب من أنواع الأزمات التي كان على أسلافه المباشرين إدارتها.

عانت جانيت يلين من غزو روسيا لأوكرانيا وفشل ”بنك وادي السيليكون“، وقد واجه منوشين الوباء. كما يمكن لبيسنت أن يعتبر نفسه محظوظاً، على الأقل في المدى القريب، لأنه نجا من خطر التخلف عن سداد المدفوعات الاتحادية الآن بعدما رفع الجمهوريون سقف الدين كجزء من قانون ”قانون واحد كبير وجميل“.

لم يصبح سوى عدد قليل من وزراء الخزانة شخصيات بارزة في التاريخ. يحظى هاملتون بتوقير لدوره كأحد الآباء المؤسسين وكمؤلف لكتاب "أوراق الفيدرالية". وقد موّل ألبرت جالاتين عملية شراء لويزيانا عام 1803 فمنح الولايات المتحدة السيطرة على نيو أورلينز وضاعف تقريباً حجم الدولة الناشئة. أما سالمون تشيس فقدم أول عملة وطنية هي الدولار الأميركي خلال الحرب الأهلية. وساعد هنري مورغنثاو الابن في إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

كان بيسنت يفكر في إرثه حتى قبل تأكيد مجلس الشيوخ على تعيينه في أواخر يناير، فقد وضع قائمة بالأشياء التي أراد إنجازها أثناء توليه منصبه. يقول: "سهل جداً على المبنى أن يديرك… يمكنك أن تكون مديراً رائعاً هنا وتجري مزادات سندات جيدة وتنجز مشروع قانون الضرائب، أو يمكنك أن يكون لديك أهداف أكبر وتترك بصمة".

يضع بيسنت ضمن أهدافه تعزيز هيمنة الدولار، وإصلاح الأطر التنظيمية للمصارف الأميركية، وضمان ألا تُفيد السياسة الاقتصادية الطبقة المالية وتُهمل العمال الأميركيين. يبتسم بيسنت ويقول: "ربما سأشتري غرينلاند".

تصنيفات

قصص قد تهمك