
بلومبرغ
بعد أشهر من التهكم على كندا واعتبارها دولة "ما كان ينبغي أن توجد"، ووصف رئيس وزرائها آنذاك جاستن ترودو بأنه "حاكم" ولاية أميركية مستقبلية، وفرض رسوم جمركية باهظة قوّضت واحدة من أكبر العلاقات التجارية الثنائية في العالم، بدت لهجة الرئيس الأميركي وكأنها انقلبت فجأة لتعبّر عن انفراجة دبلوماسية بعد فوز مارك كارني في الانتخابات الكندية في 28 أبريل.
فبعد يومين فقط على انتخاب كارني، قال ترمب للصحافيين: "أعتقد أننا سنقيم علاقة رائعة. إنه رجل لطيف جداً". وبالنظر إلى تهديده السابق باستخدام "القوة الاقتصادية" لضمّ الجار الشمالي، لم يكن سقف التوقعات مرتفعاً أساساً، ما جعل إشارته إلى كارني- الذي شغل سابقاً منصب حاكم بنك كندا وبنك إنجلترا- بلقبه الرسمي "رئيس الوزراء" تطوراً لافتاً لدى الكنديين.
توتر بعد انفراجة في العلاقات
قال ترمب خلال زيارة كارني للبيت الأبيض في مايو: "أعتقد أن كندا اختارت شخصاً موهوباً وجيداً جداً".
ردّ كارني، الذي سبق أن ترأس مجلسي إدارة "بروكفيلد أسيت مانجمنت" و"بلومبرغ"، واصفاً ترمب بأنه "رئيس يُحدث تحولات"، لكنه حرص أيضاً على أن يرد بكلمة "أبداً" لن يكون ذلك أمام الكاميرات عندما كرر ترمب تعليقه المعتاد عن كندا بوصفها "الولاية الأميركية الحادية والخمسين".
كان هذا التحوّل في نبرة ترمب مفاجئاً إلى حد أن مذيعة "سي إن إن" كريستيان أمانبور قالت في 24 يونيو إن كارني شذب تعامل ترمب، وكان ذلك متزامناً مع انضمام كندا إلى حلفائها في "الناتو" لتلبية مطلب أميركي قديم بزيادة الإنفاق الدفاعي. وفي ظلّ حديث كارني عن احتمال توقيع اتفاق تجاري وأمني مع واشنطن في 21 يوليو، بدت الأجواء إيجابية.
لكن بعد ثلاثة أيام فقط على تلك المقابلة مع "سي أن أن"، عادت الأجواء إلى التوتر. إذ أعلن ترمب عبر منصة "تروث سوشال" إنهاء محادثات التجارة، احتجاجاً على مضي كندا في فرض ضريبة رقمية بنسبة 3% على إيرادات شركات التقنية الأميركية من المستخدمين الكنديين. لكن سرعان ما تراجعت كندا عن القرار.
هاجم ترمب من وصفهم بـ"الكنديين الفظّين للغاية" عبر قناة "فوكس نيوز"، وعاد إلى تكرار شكاواه بشأن القيود التي تفرضها كندا على واردات منتجات الألبان، وهي قضية يُعدّ المسّ بها محرماً سياسياً في الداخل الكندي، نظراً لأهميتها للمزارعين في مقاطعة كيبيك ذات النفوذ والثقل الانتخابي. إذ تفرض كندا رسوماً جمركية تتراوح بين 200% و300% في حال تجاوز الحصص المحددة لاستيراد الزبدة والجبن والحليب، ما يجعل تجاوزها نادراً، لكن ترمب يعتبر أن هذه السياسات تبرّر فرض رسوم مرتفعة على كندا.
اقرأ أيضاً: تهديد ترمب بفرض رسوم على كندا يربك استراتيجية كارني لتجنب التصعيد
ويبدو أن رصيد حسن النية الذي راكمه كارني بأسلوبه التوافقي ومجاملاته لم يكن كافياً لحماية كندا، الجارة الأقرب التي تتقاسم مع الولايات المتحدة كل شيء، من مباريات البيسبول وكرة السلة إلى القيادة العسكرية الثنائية الوحيدة في العالم، "نوراد" (NORAD). في 10 يوليو، تلقت كندا رسالة بفرض تعرفة جمركية صادمة بلغت 35%، وهي نسبة تفوق ما فُرض على دول قاصية مثل جنوب أفريقيا، أو أقل مودةً تجاه الولايات المتحدة مثل ليبيا، على أن تدخل حيز التنفيذ في الأول من أغسطس.
(في الواقع، تُعفى نسبة كبيرة من صادرات كندا إلى الولايات المتحدة من هذه الرسوم، أو تخضع لرسوم مخفّضة، بفضل الاستثناءات المنصوص عليها في اتفاقية التجارة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، إلى جانب الضرائب التفضيلية المفروضة على سلع أساسية تحتاجها الولايات المتحدة، مثل النفط).
عقدة منتجات الألبان
كرر ترمب في رسالته طرح شكاوى قديمة، منها تهريب الفنتانيل، رغم أن كندا كثفت جهودها لتعزيز أمن الحدود، وتُظهر بيانات الجمارك الأميركية أن التهريب عبر الحدود الشمالية يكاد لا يُذكر مقارنةً بالحجم الآتي من الحدود الجنوبية. كما انتقد العجز التجاري الأميركي، رغم أنه يعود في الأساس إلى استيراد المصافي الأميركية ملايين البراميل يومياً من النفط الخام الكندي. ثم أعاد تسليط الضوء على نظام الألبان الكندي، أو بالأحرى "إدارة العرض" كما تُسمى على الضفة الكندية.
لكن ضرائب الألبان قد تكون التنازل الذي يصعب على كارني تقديمه، خصوصاً أن وزراءه أكدوا سلفاً أن هذا الملف غير مطروح للنقاش. فالنظام القائم منذ عقود يحمِل أبعاداً تتجاوز بكثير قضية الضريبة الرقمية، التي لم تدر في نهاية المطاف فلساً واحداً على الخزينة الكندية.
في رده الهادئ على رسالة ترمب، اكتفى كارني بالقول إن موعد الأول من أغسطس، الذي حدده الرئيس الأميركي لبدء تطبيق الرسوم، يشكل مهلة جديدة للمفاوضات، في إشارة ضمنية إلى أن الرسالة العلنية لا تمثل نهاية المسار، بل فصلاً جديداً في المفاوضات المصيرية.





