بلومبرغ
يتطلب العيش في مومباي تحمل لا ينضب للضجيج الذي تتمازج فيه أصوات محركات الريكشا التي تدور بلا توقف مع أبواق سيارات يحاول سائقوها شق طريقهم وسط زحام مروري يصعب اختراقه، وكذلك أزيز وطرق في مواقع بناء أبراج المكاتب والأبنية السكنية ومسار المترو الجديد.
يضاف إلى ذلك قرع الطبول وصدح الأبواق الآتية من احتفالات الزفاف والمهرجانات التي لا حصر لها وتكتمل الضوضاء بصياح الباعة الجوّالين وأغاني بوليوود بصوت مرتفع المنبعثة من شاحنات القمامة.
لذا عندما بدأت سُميرة عبد العلي حملتها ضد التلوث بالضجيح في العاصمة المالية للهند قبل عقدين، كان أصدقاؤها ومعارفها وحتى محاموها مجمعين على غياب أي أمل بنجاح مساعيها. قالت: "قال لي الناس إن المحاولة بحد ذاتها سخيفة لأن الهنود يحبون الضوضاء. نحن بلد صاخب".
لكن في 2003، فازت عبد العلي بقضية مصلحة عامة لإلغاء تغييرات كانت قد أُحدثت على التشريعات البيئية لتسمح بتشغيل الموسيقى الصاخبة في أوقات متأخرة من الليل خلال مهرجان نافراتري كل خريف. أدى هذا الحكم لحظر شامل على استخدام مكبرات الصوت على بعد أقل من 100 متر من المدارس والمستشفيات والمحاكم وأماكن العبادة. كما كسبت أكثر من 12 قضية أخرى شخصياً وعبر المؤسسة التي أطلقتها في 2006 باسم "أواز فاونديشين" (Awaaz Foundation)، وتعني كلمة أواز الضجيج باللغة الهندية.
الضجيج تهديد بيئي
تحذر منظمة الصحة العالمية من أن التلوث بالضحيج هو أحد أعلى التهديدات البيئية على رفاه البشر، ولا يؤثر على السمع فحسب بل على النوم وتطور الدماغ والصحة القلبية الوعائية أيضاً. يتعرض مزيد من الناس حول العالم لضوضاء بلا هوادة فيما يزداد توسع المدن، ولعل مومباي بؤرة هذه الأزمة العالمية الناشئة.
تدّعي عبد العلي أن هذه المدينة هي الأعلى ضجيجاً في العالم، رغم صعوبة الوصول إلى نتائج حاسمة لإحصائية كهذه. وجدت دراسة أجراها المعهد الوطني لأبحاث الهندسة البيئية في الهند في 2020 أن مستويات الضجيج في مومباي والمناطق المحيطة بها تتجاوز الحدود القانونية بكثير. قال ريتيش فيجاي، الكاتب الرئيسي للتقرير: "يمكننا رؤية تلوث الهواء والماء، لكن فيما يتعلق بتلوث الضجيج فلا يسعنا إلا أن نشعر ونحسّ به. إنه سم بطيء".
أصبحت المعركة ضد الضجيج مشحونة في السنوات الأخيرة، حيث غالباً ما كانت عبد العلي تواجه مصالح قوية تعتبرها نتائج ثانوية حتمية للنمو الاقتصادي. يضع ارتفاع الطلب على المنازل الجديدة تشريعات الضجيج في صدام مباشر مع خطط التطوير في مدينة تتوسع بسرعة مثل مومباي ويتجاوز عدد سكانها 12 مليوناً.
أسباب مادية أيضاً
تعرفت بينيلوبي تونغ على ذلك عن كثب، فقد استيقظت صباح يوم منذ عامين على قرع متواصل مصدره مشروع بناء بجوار شقتها في الطرف الجنوبي المزدحم للمدينة. قالت تونغ، وهي مدرسة مسقط رأسها مومباي: "كان الأمر مزعجاً للغاية. كنت أشعر بغضب شديد كلما بدأت تلك الضوضاء".
سمعت تونغ عن "أواز" من والدتها، فاتصلت بعبد العلي طلباً لنصيحة. ساعدتها عبد العلي بالاتصال مع الشرطة وتقديم شكاوى قانونية وتوثيق الضوضاء التي بلغت حوالي 100 ديسيبل، ما قد يضر بسمع الإنسان لدى التعرض له مطولاً. رغم أن هناك إلزام بإقامة حواجز للصوت على مشاريع البناء إلا أنها باهظة الثمن، لذلك يقاومها المطورون. لكن مقاول المشروع قرب شقة تونغ ركب على مضض حاجزاً مؤقتاً لامتصاص الضوضاء بعد أربعة أشهر من بدء المشروع.
حركة المرور هي مشكلة أصعب، فقد كان جسر جيه جيه أعلى أماكن الضوضاء في المدينة حسب "أواز"، وهو طريق سريع مرتفع يؤدي إلى محطة السكك الحديدية الرئيسية. وصل مستوى الضوضاء على الطريق إلى 110 ديسيبل، وهو مستوى قد يؤدي لتضرر دائم في السمع لدى التعرض له مدة 15 دقيقة فقط، وفقاً للمراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها. أقامت مومباي في 2011 حاجزاً بطول 3 كيلومترات على جزء من طريق سريع مشابه، ووجدت "أواز" أنه خفّض الضوضاء في منطقة سكنية قريبة بمقدار 16 ديسيبل. دفع ذلك المدينة لطلب وضع حواجز عند إنشاء طرقات مرتفعة جديدة، رغم أن القواعد لا تؤثر على المسارات الأقدم مثل جيه جيه.
بيّن فيجاي أن التقنية قد تساعد في هذه المعركة أيضاً، وقال: "تمثل أصوات أبواق السيارات الجزء الأسوأ". يقترح وضع أجهزة في المركبات لقياس استخدام بوق السيارة، ما يتيح للمسؤولين تقديم حوافز للسائقين الأكثر هدوءاً مثل خصومات على التأمين على السيارات. قال إنه من شأن إشارات المرور التفاعلية، حيث تكتشف مستشعرات مرتبطة بأضواء التوقف كثافة حركة المرور، تحسين تدفق المركبات وتقليل رغبة السائقين باستخدام الأبواق.
تقييد الأبواق
حشدت عبد العلي مسؤولين محليين في معركتها، وأقرت مدينة مومباي مرسوماً بفرض أول يوم "بلا أبواق السيارات" في الهند في 2008، ووزع رجال الشرطة كتيبات لزيادة الوعي حول ضوضاء المرور، وفرضوا غرامات وصلت إلى ألف روبية (12 دولاراً) على المخالفين.
تفرض شرطة مومباي الآن قيوداً على استخدام أبواق السيارات كل أربعاء، وبات عدد من رجال الشرطة الآن يحملون أجهزة قياس ديسيبل.
لكن المسؤولين الأقوياء يتجاهلون القواعد عندما يناسبهم ذلك. قالت عبد العلي إن الفصائل المتنافسة تستخدم المهرجانات لكسب المؤيدين، لذلك يؤيد قادتها الاحتفالات الصاخبة في غالب الأحيان. لذلك بلغت مستويات ديسيبل خلال عطلة العام الماضي للاحتفاء بصنم غانيش الذي له رأس فيل آعلى مستوياتها على الإطلاق.
قال فيجاي إن المهرجانات مشكلة مؤقتة، لكن التأثير طويل المدى للضوضاء اليومية أهم بكثير، ويعتقد أنه على النشطاء تركيز جهودهم. قال: "نحن في الهند نحتفل في المهرجانات بكثير من الضجيج. لكن ضوضاء الخلفية وحدها تتجاوز الحد المسموح به".