
بلومبرغ
تشهد جامعة ستانفورد على قصص نجاح تريليونية الحجم، وقد سُمّيت مبانيها تيمناً بأسماء بيل غيتس، مؤسس ”مايكروسوفت“، وجينسن هوانغ، مؤسس ”إنفيديا“.
لكن بينما يتكئ بريت تايلور على كرسيه في مقهى خارجي بجوار الساحة الرئيسية، يُركز رئيس مجلس إدارة ”إوبن إيه آي“ (OpenAI) والمؤسس المشارك لشركة الذكاء الاصطناعي الناشئة ”سييرا تكنولوجيز“ (Sierra Technologies) على كيفية تحوّل هذه القصص فجأةً إلى كارثة.
درس تايلور علوم الحاسوب في هذا الحرم الجامعي العريق في كاليفورنيا كطالب في السنة الثانية عام 1999، وعاش نشوة الويب بنسختها الأولى، عندما كانت الكومبيوترات المكتبية من”سن مايكروسيستمز“ (Sun Microsystems) باهظة الثمن تصطفّ في مختبرات الطلاب، وكانت العلامات التجارية التقنية التي كانت رائجة فيما مضى تُوزّع الوجبات الخفيفة ترويجاً للوظائف لديها.
"أوبن إيه آي" تستعد لطرح عام قد يرفع قيمتها السوقية إلى تريليون دولار
بعد ذلك بوقت قصير، انفجرت فقاعة الإنترنت، واختفت البيتزا المجانية وعروض العمل مع 5 تريليونات دولار من القيمة السوقية لشركات القطاع. (وقد انخفضت القيمة السوقية لشركة ”صن“ نفسها بنسبة 96%، ومعظم شباب هذه الأيام لا يتذكرون اسم تلك القوة التي كانت مهيمنة فيما مضى في مجال الخوادم والبرمجيات). يمزح تايلور قائلاً إنه هو وزملاؤه من مبرمجي جيل إكس تخصصوا في علوم الحاسوب و"دورات التهويل في وادي السيليكون".
في هذه الظهيرة الدافئة من سبتمبر، قال تايلور إنه كان يفكر كثيراً في كيفية مقارنة طفرة الذكاء الاصطناعي اليوم بانهيار شركات الإنترنت قبل 25 عاماً. بين التقييمات المرتفعة للشركات الناشئة التي تعد بآلات خارقة، وحزم التعويضات الباهظة لكبار الباحثين، هناك شعور بأن الصناعة تقترب مرة أخرى من مسار شركة ”صن مايكروسيستمز“.
تجنب أخطاء الماضي لوادي السيليكون
في الواقع، في الليلة التي سبقت لقاءنا، انتشر خبر جمع ”سييرا“ 350 مليون دولار جعلت تقييمها يبلغ 10 مليارات دولار- وهو العتبة التالية لمستوى اليونيكورن، وهو يبدو غريباً بعض الشيء في وقتٍ تزدهر فيه شركاتٌ ضخمةٌ تتجاوز قيمتها 100 مليار دولار في منطقة خليج سان فرانسيسكو.
لكن تايلور يركّز على تجنّب تكرار أخطاء ماضي وادي السيليكون. قال: "لقد شاهدت كثيراً من الشركات تنمو ثم تنهار، وربما لديّ ارتياب حيال ذلك… إذا بدأتَ تصدق هراءك، فإن احتمالات قدرتك على رؤية المستقبل بوضوح ضئيلة جداً".
"أوبن إيه آي" تتأهب أخيراً لمرحلة جني الأرباح قبل أن تنفد الأموال
يُعرف تايلور، البالغ من العمر 45 عاماً، بهذا النوع من الانضباط المتواضع، مع أن كلمة "معروف" قد تكون من قبيل المبالغة. على الرغم من ريادته لخرائط ”جوجل“ في العقد الأول من هذا القرن، وإضافته لزر "الإعجاب" إلى فيسبوك، وقيادته مجلس إدارة ”تويتر“ خلال عملية بيعه المضطربة لإيلون ماسك، وقيادته حديثاً لصفقة إعادة هيكلة ”أوبن إيه آي“ بقيمة 135 مليار دولار مع ”مايكروسوفت“، إلا أن تايلور لا يلفت أنظار الطلبة في حرم أبرز جامعة تغذي وادي السيليكون بالكفاءات.
لا أحد من المارة المتحمسين ينظر إليه بدهشة أو يطلب صورة شخصية كما قد يفعل مع أي من الرؤساء التنفيذيين المشهورين أو خريجي جامعة ستانفورد الذين عمل معهم عن كثب. لكن قلة الضجة تبدو في الواقع استقبالاً مناسباً لقائد يمكن القول إنه الأكثر تأثيراً بهدوء في عالم التقنية.
نشأة شخصية مؤثرة في عالم التقنية
نشأ تايلور على بُعد ساعة تقريباً شمالاً، في منطقة إيست باي، حيث كان يبرمج ألعاباً بسيطة على حاسبته الآلية من طراز "تكساس إنسترمنتس 85" (TI-85)، ويتعلم بنفسه لغة (HTML) على جهاز الكمبيوتر العائلي من طراز ”هيوليت باكارد“ (Hewlett-Packard).
ساعده والداه في شراء حافلة ”فولكس واجن“ مستعملة في عيد ميلاده السادس عشر، وانتهى به الأمر بصدم سيارة ”كاديلاك“ من الخلف. لتغطية تكاليف الأضرار، عمل تايلور في تنظيف الحمامات في محطة وقود بوسط المدينة، وكان يكسب 4.25 دولار في الساعة، وكان يرتدي قميص ميكانيكي وقد طرز عليها اسمه مع خطأ إملائي جعله "برنت".
بحثاً عن استراتيجية للخروج، بدأ بتصميم مواقع إلكترونية، بما في ذلك موقع لمعرض سيارات قريب. وسرعان ما بدأ يبيع صفحات ويب لشركات محلية أخرى، ويجني مئات الدولارات من كل صفحة، ثم تمكن من أن يدير ظهره لوظيفته في محطة الوقود تلك.
نتائج عمالقة التكنولوجيا تضع الإنفاق الهائل على الذكاء الاصطناعي تحت المجهر
وكما ينبغي فقد ارتاد جامعة ستانفورد، حيث درست والدته وكذلك والده وأخته الكبرى أيضاً، وهناك كان يستمع إلى فرق موسيقى البانك مثل "سكريتشينغ ويزل“ (Screeching Weasel)، ويستمتع بأجواء الجامعة الصاخبة، وإن كان ذلك عبر التواجد في الجوار.
قال: "استمتعت كثيراً، لكنني كنت مهووساً بالبرمجة. قد يكون هناك كشك به براميل شراب الشعير خلفي في غرفة مهجعي، وأجد نفسي عالقاً في عالم الماتريكس“.
بعدما تخرج تايلور، وظّفته مساعدة تدريس سابقة في برنامج علوم الحاسوب في ”جوجل“ مديراً مساعداً للمنتجات. كانت تلك المدرسة المساعدة ماريسا ماير، الموظفة العشرون لدى ”جوجل“، التي أدارت لاحقاً شركة ”ياهو“ (Yahoo).
بداية الصعود في عالم وادي السيليكون
غالباً ما يُصوَّر مسار تايلور من تلك اللحظة فصاعداً على أنه قصة سعيدة في عالم التقنية، لكن بعض الإخفاقات المنسية سبقت انتصاراته. محفورة في ذاكرته قصة بائسة مع ماير ولاري بيج، مؤسس ”جوجل“ المشارك، بعد إطلاقه خدمة ”جوجل لوكال“ (Google Local)، النسخة الخاصة بمحرك البحث من دليل الصفحات الصفراء، التي لاقت انتقادات واسعة.
كاد ذلك أن يفسد مسيرته المهنية، لكن بيج منحه فرصة ثانية؛ وانتهى الأمر بتايلور بالمشاركة في إنشاء تجربة غامرة وأكثر قبولاً مع ”جوجل مابس“. ترك ”جوجل“ وأنشأ ”فريند فيد“ (FriendFeed)، وهو موقع تواصل اجتماعي باعه بمبلغ زهيد إلى ”فيسبوك“ (وهي الآن تُسمى ”ميتا بلاتفورمز“)، وقد أغلفته في النهاية.
مع ذلك، أدى برنامجه الأساسي إلى تحسينات هائلة في موجز أخبار الشبكة الاجتماعية، بما في ذلك إدخال زر الإبهام الشهير للموقع. كما شغل منصب كبير التنفيذيين التقنيين.
سر تحول جوجل وفيسبوك إلى عملاقين
عندما التقيت تايلور لأول مرة عام 2014، كان قد انتقل بالفعل إلى شركته الناشئة التالية، وهي شركة تنافس ”جوجل دوكس“ تُسمى "كويب".
مع ذلك، فقد أمضى وقتاً طويلاً، على نحوٍ مفاجئ، يتحدث عن أمورٍ تعلّم أن يفعلها، أو ألّا يفعلها، خلال سنوات عمله على ”فيسبوك“ تحت قيادة مارك زوكربيرغ: تكوين صداقات مع الموظفين المبتدئين وطلب أفكارهم؛ ومقاومة التحول إلى "مُتذمر" على طريقة جوبز؛ وحل المشكلات بعقلية مهندس أنظمة شاملة لا مدير مُفرط في التدخل مع الحفاظ على "إنسانية خارقة"- وهي مبادئ ما يزال يلتزم بها حتى اليوم.
تجارب متباينة في شركات لا تتشابه أنشطتها
لم يمضِ وقت طويل قبل أن يعمل مرة أخرى جنباً إلى جنب مع مؤسس تقني آخر ذي مكانة مرموقة: في عام 2016، استحوذت شركة ”سيلزفورس“ (Salesforce). على "كويب"، في صفقة بلغت قيمتها 750 مليون دولار، ولاحقاً، تقاسم تايلور لقب الرئيس التنفيذي مع مارك بينيوف لأكثر من عام بقليل.
كانت شخصيتا بينيوف وتايلور "المختلفتان تماماً" جزءاً مما يقول إنه ساعد في نجاح هذا الثنائي غير المتوقع. في الواقع، ساعدته موهبة تايلور كمنفذٍ واقعي لرؤى المديرين التنفيذيين، غريبي الأطوار أحياناً، في التعامل مع اثنتين من أسوأ أزمات حياته المهنية: إتمام صفقة بيع ”تويتر“ الطاحنة لماسك عام 2022، وفي العام التالي، استدعاؤه لإصلاح الوضع المتردي في شركة ”أوبن إيه آي“ بعد طرد مؤسسها ورئيسها التنفيذي سام ألتمان بشكل غير رسمي في وقت متأخر من أحد أيام الجمعة.
"تويتر" تقاضي إيلون ماسك لإجباره على تنفيذ الصفقة
كانت كلتا المأساتين سريالية، وقد راسل ماسك تايلور شخصياً بمطالبه طيلة عملية الاستحواذ، وتعرضا باستمرار للتقاضي ولأحكام في الكتب التي تتناول عالم الأعمال.
قال تايلور، الذي لطالما تحفّظ على تفاصيل هذه المحن، إنه شعر بنوبات غضب وقلق، لكنه كان دائماً قادراً على كبح جماح تلك المشاعر عندما تكون الأعمال الجادة على المحك. يقول الأب المتزوج لثلاثة أطفال مازحاً: "لم أبكِ“.
بينما كنّا نتجول في الحرم الجامعي، توقف تايلور ليُعجب بحديقة منحوتات أوغست رودان. أشار إلى "بوابات الجحيم"، وهي مدخل برونزي مهيب يُمثل الجحيم كما تخيله دانتي.
إنها استعارة جيدة لتصوير السوق الذي طالما كان موضع استهجان والذي يدخله تايلور الآن مع سييرا، وبذك أقصد خدمة العملاء. تحاول سييرا إعادة تصور تجربة تقديم الشكاوى وإعادة المشتريات في شركات مثل ”دايركتيفي“ (DirecTV) و“سايروس إكس إم“ (SiriusXM) و“ويفير“ (Wayfair). في كل مرة يتصل فيها عميل للشكوى، قد يكلف ذلك مزود الخدمة حوالي 20 دولاراً- وأكثر من ذلك من حيث خسائر الولاء للعلامة التجارية إذا لم يتلقّ الاتصال تعاملاً حسناً.
خدمة عملاء تعتمد على الذكاء الاصطناعي
يستخدم فريقه، الذي يضم أكثر من 300 شخص، الذكاء الاصطناعي لمحاولة التخلص من الإحباطات عبر وكلاء الرسائل النصية والصوت الذين يمكنهم إتمام الإجراءات بسلاسة دون تدخل بشري.
يرى تايلور خدمة العملاء كنقطة انطلاق لجميع أنواع فرص الإيرادات الأخرى. (في نهاية المطاف، مكّن جهاز مسح بطاقات الائتمان من ”سكوير“ جاك دورسي من دخول مجال قروض الشركات الصغيرة وتحويل الأموال بين الأقران).
"أبل" تعتزم إطلاق تطبيق للدفع الإلكتروني ينافس خدمة "سكوير"
إنه نوع من حلول المشكلات التقنية التي يُبدع فيها. تُعدّ ”سييرا“ أيضاً من تطبيقات الذكاء الاصطناعي الواقعية التي يرى المراقبون الحذرون أن على صناعة التقنية السعي إليها لتجنب انفجار فقاعة أخرى.
لا يحتاج المستهلكون إلى عدد لا يُحصى من ”تشات جي بي تي“ أكثر مما يحتاج المستثمرون إلى مزيد من الشركات الناشئة عديمة الإيرادات. (نقلت بلومبرغ نيوز أن ”سييرا“ في طريقها لتجاوز 100 مليون دولار من الإيرادات المتكررة السنوية هذا العام). يقول تايلور إنه يجب على الناس التوقف عن السعي وراء "مشاريع الذكاء الاصطناعي المُضللة لإرضاء رؤسائهم أو مجلس إدارتهم".
ماذا يقول بعض الأذكياء عن فقاعة الذكاء الاصطناعي؟
لكن، لو حدث ذلك، فقد لا يكون انهيار الذكاء الاصطناعي أمراً سيئاً على المدى الطويل. يعلم تايلور، الذي تلقى تعليمه في مجال الإنترنت، أن قدراً معيناً من "التدمير الإبداعي الطبيعي" أمر صحي. عادةً ما يُنسى أنه بينما دمّر ذلك الانهيار ”بيتس دوت كوم“ (pets.com) و“إي تويز“ (eToys) ومئات الشركات الناشئة السطحية الأخرى، فإن الشركات الناجية، بما في ذلك ”جوجل“ و“أمازون دوت كوم“، تطورت لتصبح شركات أجيال من عصر الويب 2.0.
يُذكّرني تايلور بأنه لم يكن هناك سوى "حفنة صغيرة من شركات التقنية الراسخة حقاً"، مثل تلك التي نُقشت أسماء مؤسسيها -بمن فيهم بيل هيوليت وديفيد باكارد اللذان كانا وراء جهاز الكمبيوتر الذي كان يستخدمه في طفولته- على واجهات مراكز الهندسة في جامعة ستانفورد. يطمح تايلور إلى بناء واحدة من تلك الشركات التي تدوم، حتى لو لم تسمعوا اسمه في أثناء ذلك.





