
بلومبرغ
كان الموضوع العام لاجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة لهذا العام في نيويورك "معاً أفضل". إنه شعارٌ نموذجيٌّ يمثل رسائل الأمم المتحدة الدقيقة التي يُراد لها أن تكون حذرة ومتفائلة وبدهية لحد البساطة فلا يُمكن أن تُسيء إلى أحد. بعبارة أخرى إنها في الحقيقة مجرد طريقة أخرى لذكر اسم المؤسسة نفسها.
استدراكاً، لا يمكن أن تسيء إلى أي أحد باستثناء دونالد ترمب. في خطابه اللافت أمام الجمعية يوم الثلاثاء، وجّه الرئيس الأميركي انتقاداً مباشراً لقيمة التكاتف، مُهاجماً الأمم المتحدة والعولمة والتجارة الحرة، وتغير المناخ والطاقة المُتجددة، والهجرة، إضافةً إلى كفاءة زملائه من قادة العالم. وقال لنظرائه: "أنا بارعٌ حقاً في هذه الأمور. بلدانكم متجهة إلى الجحيم".
كان الخطاب لاذعاً حتى بمقياس سياسي، حيث لم يُخفِ ازدراءه للتحالفات الدولية، وللأمم المتحدة تحديداً. في الأشهر التي سبقت الجمعية العامة، انسحب ترمب من معاهدة الأمم المتحدة للمناخ، وتغيب الدبلوماسيون الأميركيون عن مؤتمرات الأمم المتحدة حول الفقر العالمي وحماية المحيطات. كما انسحبت الولايات المتحدة من مراجعة حقوق الإنسان في أغسطس.
إدارة واشنطن الجديدة تصيغ مصطلحات للاستخفاف بالتغير المناخي
بعد ظهوره هذا الأسبوع في نيويورك، قال ترمب إن العاملين في الأمم المتحدة عطّلوا جهاز التلقين الذي كان سيستخدمه، وعبثوا بنظام الصوت في القاعة، وأوقفوا سلماً كهربائياً بمجرد صعوده عليه. وكتب على وسائل التواصل الاجتماعي: "لم تكن هذه مصادفة، بل كانت عملية تخريب ثلاثية في الأمم المتحدة“.
رغم مزاعم ترمب بالمؤامرة، لم يحتج القادة والدبلوماسيون المجتمعون في نيويورك إلى اللجوء إلى حيلٍ لإظهار خلافهم القوي مع الرئيس. إذ أن رفض الأمم المتحدة لرؤيته العالمية ظاهرٌ جليّ على جدول أعمال المنظمة. إن قائمة القضايا التي اختارتها حكوماتٌ أخرى من شتى أقطار الأرض لتكون محور مناقشات "رفيعة المستوى" هذا الشهر كانت دحضاً لبعضٍ من أشدّ شكاوى ترمب.
كما تُظهر إلى أي مدى أبعد الرئيس الولايات المتحدة عن بقية العالم، وكيف يُواصل أصدقاء أميركا وخصومها مسيرتهم، سواءً بمشاركة أقوى دولةٍ على وجه الأرض أم بغيابها.
أقطاب متعددة بعد أحادية
إنّ تنامي القوة الجيوسياسية للصين في ظلّ شي جين بينغ وتأكيد فلاديمير بوتين على قوة روسيا يعني انتهاء العالم أحادي القطب، ويقول ستيفن والت، الأستاذ في كلية كينيدي بجامعة هارفرد، ومؤلف كتاب "جحيم النوايا الحسنة: نخبة السياسة الخارجية الأميركية وتراجع الهيمنة الأميركية“ أنه في هذا العالم أحادي القطب"لا تواجه الولايات المتحدة أيّ خصومٍ مهمّين، ويمكنها فعل ما تشاء تقريباً، أو على الأقلّ أن تحاول فعله". أضاف إن أميركا لم تعد "المحور الموثوق" للعلاقات الأمنية مع أوروبا وأجزاء أخرى من العالم كما كانت في السابق.
قد يتفق قادة المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة عموماً مع ترمب على أن المهاجرين الذين يعبرون الحدود بشكل غير قانوني يمثلون مشكلة مستمرة. لكن بينما يصفهم ترمب بالغزاة المجرمين، تميل الأمم المتحدة أكثر إلى اعتبارهم يائسين يبحثون عن عمل أو ملاذ من الاضطهاد في أوطانهم.
في خطابه، قال الرئيس إن أوروبا "تتدمر" بسبب "أزمة الهجرة غير المنضبطة". وألقى ببعض اللوم على الأمم المتحدة نفسها، متهماً برامجها لمساعدة المهاجرين "بتمويل هجوم على الدول الغربية وحدودها". إن الحل الذي أوصى به ترمب وهو طردهم ليس بهذه السهولة، كما اكتشف هو نفسه في بلاده. مع ذلك، لم تقم الإدارة الأميركية بدور قيادي في بعض اجتماعات هذا الأسبوع، حيث يبحث الأعضاء عن بدائل.
هاجم ترمب تغير المناخ يوم الثلاثاء فوصفه بأنه "أكبر عملية احتيال على الإطلاق تُرتكب بحق العالم"، ووجّه تحذيرًا لنظرائه: "لقد كنتُ مُحقاً في كل شيء، وأقول لكم إنكم إن لم تتخلصوا من خدعة الطاقة الخضراء، فإن بلادكم ستفشل“.
مع ذلك، بعد يوم من خطاب ترمب، سجّل أكثر من 100 من قادة العالم أسماءهم لإلقاء كلمات في إحدى أهم فعاليات الأسبوع، وهي قمة المناخ. وتضمنت القمة حلقات نقاش حول الحر الشديد والطاقة النظيفة وإزالة الكربون. وكان غياب الولايات المتحدة عن قائمة المتحدثين ملحوظاً.
انحسار أميركا يمنح مساحة للصين
في حين أعلن ترمب حب "الفحم النظيف والجميل"، تناولت مناقشة الأمم المتحدة للمناخ مشكلة انبعاثات الوقود الأحفوري المُستمرة. وتحدث شي إلى المجموعة عبر الفيديو، مُعلناً نيته خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الصين بنسبة 7% إلى 10% بحلول عام 2035. وهذا لا يكفي لإبطاء الاحترار العالمي السريع، نظراً لأن الصين، أكبر مُصدر لتلوث الكربون، مسؤولة عن أكثر من 30% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية. لكنها كانت المرة الأولى التي تتعهد فيها البلاد بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
هل تستطيع الدول الأكثر تلويثاً خفض انبعاثاتها؟
يبدو أن شي يستغل انسحاب ترمب من الأمم المتحدة لتأكيد مكانة الصين كقائدة في الشؤون العالمية. في تصريحاته خلال اجتماع المناخ، وجه انتقاداً مبطناً لسياسات نظيره الأميركي: "الانتقال الأخضر ومنخفض الكربون هو التوجه السائد في عصرنا"، مشيراً إلى أن "بعض الدول تعمل ضده“.
بعد أن فرض ترمب رسوماً قدرها 100 ألف دولار على تأشيرات (H-1B) في وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت الصين عن برنامج تأشيرات جديد لجذب الكفاءات ذات المهارات العالية إلى البلاد.
قال والت من جامعة هارفرد: "تُسهّل الولايات المتحدة على الصين أن تقول لبقية العالم: 'لقد رأينا ما يحدث عندما تحاول الولايات المتحدة إدارة كل شيء وتحاول فرض قواعدها الخاصة، قواعد لا تتبعها حتى. نحن بحاجة إلى نظام عالمي مختلف فيه تقاسم للسلطة... ليس عليك أن تصدق أن الصينيين على حق تماماً لتفهم أن هذه ستكون حجة جذابة في كثير من الأماكن".
انعطافة مفاجئة بشأن الأزمة الأوكرانية
ربما لم يكن خطاب ترمب أمام الأمم المتحدة هو التصريح بشأن السياسة الخارجية الذي أطلقه الأسبوع الماضي الأسبوع خلال خطابه في الأمم المتحدة، بل في وقت لاحق من اليوم نفسه، عندما غيّر فجأة مساره بشأن حرب روسيا ضد أوكرانيا.
بعد اجتماعه مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أعلن عبر وسائل التواصل الاجتماعي أنه يعتقد الآن أن أوكرانيا قادرة على الانتصار على الجيش الروسي بدعم من أوروبا واستعادة جميع الأراضي التي فقدتها في الحرب.
كان هذا تغييراً صادماً مقارنةً مع بداية هذا العام، عندما كان ترمب يتماهى مع بوتين في إلقاء اللوم على أوكرانيا في الحرب والضغط على زيلينسكي للتخلي عن استعادة المناطق التي استولت عليها روسيا.
ترمب: على دول "الناتو" إسقاط الطائرات الروسية حال اختراقها لمجالها الجوي
لم يتضح بعد ما إذا كان ترمب يُجدد التزامه تجاه أوكرانيا أم أنه يترك أوروبا للتعامل مع صراع لم يعد يعتقد أنه قادر على تسريعه نحو اتفاق سلام. في خطابه، وبخ ترمب الدول التي تُواصل شراء النفط من روسيا، وكرر تهديده المتكرر بفرض عقوبات أشد.
بعد أشهر من مشاهدة قادة هذا العدد الكبير من الدول يُهادنون ترمب، أو على الأقل يتجنبون معارضته علناً، ليس معتاداً رؤية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة مجتمعة في رفض السماح لرئيس الولايات المتحدة بتحديد جدول الأعمال.
صحيح أن المخاطر في الجمعية العامة أقل مما يتعلق بمطالب ترمب المتعلقة بالرسوم الجمركية أو دفع مستحقات حلف الناتو. لقد تضاءلت قدرة الأمم المتحدة على التأثير على السلوكيات لسنوات.
انتقاد ترمب للمنظمة، ووصفه لها بأنها مجرد حفنة موظفين يتحدثون كثيراً ويكتبون كثيراً من التقارير دون أن يبذلوا جهدًا يُذكر، ليس مغلوطاً تماماً. مع ذلك، فإن الهيئة الوحيدة التي تضم جميع الدول تقريباً ما تزال تُمثل مقياساً جيداً لمواقف القادة من مشاكل العالم وكيفية إصلاحها. وإذا كان اجتماع هذا الأسبوع يؤشر إلى شيء، فهو دونالد ترمب يجد نفسه بشكل متزايد في تحالف قوامه شخص واحد.





