اقتصاد الحرب في روسيا يشعل منافسة داخلية على القوى العاملة

شركات الطاقة التي تقدم أجوراً مرتفعة تضطر لمنافسة قوات الجيش وشركات تصنيع الأسلحة على العمال

عربات سكك حديد لنقل النفط والوقود والغاز المسال متوقفة بمحطة سكة حديد يانيتشكينو، موسكو، روسيا
عربات سكك حديد لنقل النفط والوقود والغاز المسال متوقفة بمحطة سكة حديد يانيتشكينو، موسكو، روسيا المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

كانت صناعة النفط والغاز الروسية تشكل عنصراً حاسماً في تمويل الحرب على ​أوكرانيا، فهي وفرت للكرملين الأموال اللازمة لمواصلة الصراع الذي دخل عامه الثالث. لكن الصناعة تواجه نقصاً في القوى العاملة، حيث يفاقم الحشد الكامل لاقتصاد الحرب أزمة ديموغرافية طويلة الأمد.

في دولة لطالما لخص فيها شعار شركة "غازبروم" (Gazprom PJSC) "الأحلام تتحقق" التطلعات المهنية للعديد من المواطنين، تجد شركات الطاقة التي تقدم أجوراً مرتفعة نفسها الآن مضطرة لمنافسة الجيش الروسي وشركات تصنيع الأسلحة على العمال، وفقاً لمحللين وقائمين بالتوظيف يعملون في الصناعة. وربما تكون المكافأة المقدمة لجندي يقاتل في أوكرانيا معادلة لأجر عام تقريباً لعامل ​​في حقول النفط والغاز.

هذه المشكلة ليست جديدة تماماً، فقد واجهت روسيا انكماشاً في عدد سكانها ممن هم في سن العمل لنحو عقدين. وكان انهيار معدلات المواليد في التسعينيات سبباً جذرياً في ذلك، ثم جاءت جائحة كورونا لتزيد التحدي، لكن حرب أوكرانيا فاقمت الأمر بشكل أكثر حدة.

يؤثر نقص الموظفين الآن على الشركات في جميع قطاعات الاقتصاد، وفقاً لتقارير حديثة صادرة عن البنك المركزي الروسي. وربما يكون تأثير هذا النقص طويل الأمد على الرغم من أن صناعة النفط والغاز تبدو وكأنها تسير بسلاسة.

إعلانات الوظائف الشاغرة

أوضح أليكسي زاخاروف، رئيس شركة التوظيف عبر الإنترنت "سوبر جوب دوت آر يو" (Superjob.ru)، أن "نقص العمالة أثر حتى على الصناعات الغنية.. يمكن لقطاع النفط والغاز جذب موظفين بأجور أعلى، لكن الدولة تنافس من خلال تقديم عقود عسكرية".

يحتاج قطاع النفط والغاز الروسي إلى نحو 40 ألف موظف هذا العام، وفقاً لتقديرات شركة "كاساتكين كونسلتينغ" (Kasatkin Consulting) ومقرها موسكو، والتي كانت سابقاً مركز بحوث تابع لـ"ديلويت" (Deloitte) في المنطقة. رفعت الصناعة عدد الوظائف المعلن عنها عبر الإنترنت في الربع الأول بنسبة 24% مقارنة بالعام السابق، بحثاً عن عمالة ماهرة وغير ماهرة أيضاً، حسب بيانات منصة التوظيف الروسية الرئيسية "إتش إتش دوت أر يو" (hh.ru).

اقرأ أيضاً: العقوبات تخنق طموحات روسيا بتعزيز تصدير الغاز من القطب الشمالي

من جانبها، قالت آنا أوسيبوفا، رئيسة الاتصالات الخارجية الإقليمية لدى "إتش إتش دوت أر يو"، إن "هذه الصناعة لديها شواغر متاحة للكهربائيين والسائقين والميكانيكيين واللحامين والتقنيين والعمالة العامة ومديري المبيعات ومهندسي التصميم والبائعين".

لم تستجب وزارة الطاقة الروسية على طلب "بلومبرغ" للتعليق.

الصناعة الأعلى أجراً في الدولة

لطالما كانت صناعة النفط والغاز واحدة من القطاعات الأعلى أجراً في روسيا، فهي تقدم أجوراً تفوق المتوسط ​​​​الوطني بنسبة تزيد عن الثلثين منذ 2017، وفقاً لحسابات "بلومبرغ" المستندة إلى بيانات هيئة الإحصاء الفيدرالية.

وفي شهري يناير وفبراير، بلغ متوسط ​​الأجر الشهري الاسمي في الصناعة، بما فيها للعاملين في إنتاج النفط والغاز والخدمات والتكرير وشحنات خطوط الأنابيب والتخزين، نحو 125,200 روبل روسي (1340 دولاراً أميركياً).

لم يعد هذا المبلغ ينافس ما يقدمه الجيش الروسي للتعاقد مع الجنود. فبجانب مكافأة التسجيل الوطنية الموحدة على مستوى البلاد والبالغة 195 ألف روبل، يقدم كل إقليم روسي دفعة خاصة لمرة واحدة للمجند الجديد والتي تصل إلى مليون روبل.

قال ديمتري كاساتكين، الشريك في "كاساتكين كونسلتينغ"، إن "التنافس مع أجور القوات المسلحة والمجمع الصناعي العسكري أثر بالتأكيد" على توافر القوى العاملة في صناعة النفط والغاز الروسية.

عامل في حقل تشاياندينسكوي للنفط والغاز والمكثفات التابع لشركة "غازبروم"
عامل في حقل تشاياندينسكوي للنفط والغاز والمكثفات التابع لشركة "غازبروم" المصدر: بلومبرغ

إذا لم يرغب العامل في المشاركة في حرب أوكرانيا، حيث قدّرت وزارة الدفاع البريطانية أن أكثر من 450 ألف جندي روسي لقوا حتفهم أو أصيبوا منذ قرر الرئيس فلاديمير بوتين شن الحرب في فبراير 2022، فهناك أيضاً عقود مربحة متاحة مع الشركات المصنعة للمعدات العسكرية. يأتي ذلك وسط ارتفاع الطلب على الدبابات والمركبات المدرعة والأسلحة، وواصلت مصانع الأسلحة البحث عن عمال في سوق العمل الضيقة.

اقرأ أيضاً: إيرادات ضرائب النفط والغاز في روسيا ترتفع 90% خلال مارس

في العام الماضي، رفعت شركة الدفاع الحكومية الروسية "روستيك" (Rostec)، الأجور بمعدل 17.2% في المتوسط. وأخبر الرئيس التنفيذي للشركة سيرغي تشيميزوف بوتين في أغسطس: "ما زلنا بحاجة إلى مزيد من الأشخاص.. فكثير من مرافقنا تعمل في عطلات نهاية الأسبوع والعطلات الرسمية وفي الليل".

أزمة ديموغرافية

كان قرار بوتين بتعبئة اقتصاد روسيا للحرب سبباً في تفاقم أسوأ مشكلة ديموغرافية طويلة الأمد.

ففي التسعينيات، أدى الاضطراب الاقتصادي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي إلى انخفاض معدلات الخصوبة. وبين عامي 2007 ونهاية 2021، تقلص عدد السكان في سن العمل بمقدار 5.8 مليون شخص، وفقاً للبيانات الإحصائية. وتفاقمت المشكلة بسبب تفشي الوباء، فقد تُوفي نحو 750 ألف شخص في روسيا بين 2020 و2022 بسبب كورونا بشكل رئيسي، بحسب بيانات هيئة الإحصاء الفيدرالية.

تراجعت نسبة الموظفين دون عمر الـ30 في سوق العمل الروسي إلى 14.9% في 2022، وهو أدنى مستوى منذ أوائل 1990، حسب تقديرات شركة التدقيق والاستشارات "فين إكسبرتيزا" (FinExpertiza).

عمال إدارة إطفاء الحرائق في حقل تشاياندينسكوي التابع لشركة "غازبروم"
عمال إدارة إطفاء الحرائق في حقل تشاياندينسكوي التابع لشركة "غازبروم" المصدر: بلومبرغ

كان تقييد تدفق العمالة من الخارج واحداً من العواقب الأخرى للحرب على أوكرانيا. كما أضعفت العقوبات الدولية الروبل الروسي، ورفعت التضخم، وعقدت التحويلات المالية الدولية، مما خفض من جاذبية روسيا بالنسبة للمهاجرين من الدول السوفييتية السابقة. فقد بلغت الهجرة الصافية الرسمية للمهاجرين الأجانب للدولة نحو 110 آلاف شخص خلال العام الماضي، أي ربع مستوى 2021، وهو آخر عام للإحصاءات قبل شن الحرب.

اقرأ أيضاً: رويترز: روسيا تعاني لتحصيل مستحقات النفط وسط رقابة بنكية مشددة

وهذا المستوى من الهجرة ليس سوى قطرة في محيط احتياج روسيا للعمالة. فقد كانت الدولة بحاجة إلى 1.86 مليون عامل إضافي في نهاية مارس، وفقاً لبيانات هيئة الإحصاء الفيدرالية القائمة على طلبات الشركات إلى مراكز العمل.

امتيازات الموظفين

قال دينيس، ذو الـ41 عاماً، والذي ترك صناعة الطاقة الروسية في أغسطس لمتابعة مهنة أخرى في موسكو، إن "المناطق الشمالية تعاني من نقص في القوى العاملة، فليس هناك ما يكفي من الأشخاص".

وقدمت شركات النفط والغاز الروسية، التي غالباً ما تدير عملياتها الأساسية في مناطق نائية ذات مناخ قاسٍ، مزايا إضافية، نظراً لأن الأجور وحدها لا تكفي لجذب عمالة جديدة.

وتشير قوائم الوظائف على "إتش إتش دوت أر يو" إلى أن العامل الميداني الذي يعمل بنظام المناوبات الشهرية في أحد المواقع في سيبيريا أو القطب الشمالي، قد يتوقع "وجبات ساخنة ثلاث مرات في اليوم" وفحوصات طبية منتظمة تغطيها الشركة. وتقدم بعض الشركات أيضاً حوافز على الطراز السوفييتي مثل "هدايا العام الجديد للأطفال" ورحلات إلى منتجعات الشركات، بحسب القوائم الحديثة على الموقع.

عامل يتفقد رافعة ضخ في حقل نفط تديره شركة "باشنفت" في قرية أوترادا، أوفا، روسيا
عامل يتفقد رافعة ضخ في حقل نفط تديره شركة "باشنفت" في قرية أوترادا، أوفا، روسيا المصدر: بلومبرغ

لتوسيع دائرة الموظفين المحتملين، اعتمدت بعض الشركات سياسة "أحضر صديقك وتقاضَ الأجر"، حيث تُقدم ما بين 50 إلى 100 دولار نظير كل موظف جديد. وهذا ليس كثيراً بمقاييس الغرب، لكن في روسيا يكفي لشراء الحد الأدنى من الطعام اللازم لشخص واحد لمدة شهر.

اقرأ أيضاً: روسيا تبني طرقاً تجارية جديدة إلى آسيا لإضعاف تأثير العقوبات

مع ذلك، لا تزال كل هذه المزايا غير كافية لجذب أصحاب المهارات الشابة المرغوبين إلى قطاع الطاقة، وهذا يجبر الشركات على اللجوء إلى العمال الأكبر سناً.

عن ذلك، قال زاخاروف، من "سوبر جوب دوت أر يو" إن "صناعة النفط كانت تشجع الناس على التقاعد في الوقت المحدد، قائلة هل اقتربت من سن التقاعد؟ إليك مكافأة كبيرة وسنودعك بشرف لإفساح المجال لجيل الشباب"، لكن الشركات تلغي الآن هذه البرامج تدريجياً وتشجع الموظفين "على العمل لأطول فترة ممكنة".

الصناعة الرئيسية

منذ شن الحرب على أوكرانيا، أصبح قطاع النفط والغاز الروسي هدفاً لشبكة مشددة من العقوبات الدولية الهادفة لكبح تدفق عائدات النفط. ومع ذلك، استمرت الصناعة في العمل بسلاسة، مما وفر لموسكو الأموال اللازمة لمواصلة إرسال الجنود إلى الخطوط الأمامية وشراء الأسلحة لمهاجمة المدن والبنية التحتية الأوكرانية.

سجلت معدلات التنقيب لإنتاج النفط العام الماضي رقماً قياسياً بعد الحقبة السوفيتية، بينما ظلت صادرات روسيا من النفط الخام قوية حتى مع تقليص البلاد للإنتاج بالشراكة مع منظمة البلدان المصدرة للنفط. وعاود إنتاج الغاز الطبيعي في روسيا الانتعاش بعد انخفاض حاد خلال عامي 2022 و2023 عندما توقفت معظم تدفقات خطوط الأنابيب إلى أوروبا بشكل رئيسي. وتتوقع الحكومة تعافي صادرات الوقود عبر خطوط الأنابيب بنحو الخمس هذا العام بسبب زيادة التدفقات إلى الصين.

اقرأ أيضاً: لافروف: روسيا والصين توقفتا تقريباً عن استخدام الدولار في التجارة بينهما

ويثير نقص العمالة تساؤلات حول ما إذا كان بإمكان قطاع النفط والغاز الروسي الحفاظ على هذا الأداء على المدى الطويل.

قالت صوفيا مانغيليفا، المحللة في شركة الاستشارات "ياكوف آند بارتنرز" (Yakov & Partners) ومقرها في موسكو، إن "الوصول المقيد إلى خدمات النفط الغربية عالية التقنية يشكل خطراً على الحفاظ على الإنتاج المربح وتكرير النفط والغاز وزيادتهما.. نقص العمالة الماهرة يُفاقم هذا التحدي، لأن المهمة الآن لا تقتصر على تشغيل المعدات فحسب، بل أيضاً تطوير تقنياتنا الخاصة".